مرة أخري وأظنها لن تكون الأخيرة يتجدد الجدال حول فيلم من الأفلام.. لا يقول صراحة انه يقدم قصة النبي نوح عليه السلام لكننا من خلال السياق أو السيناريو ندرك اننا فعلاً أمام قصة "نوح" مع تعديلات طفيفة لزوم تمرير الفيلم في منطقة الشرق الأوسط حيث الحساسية الشديدة تجاه كل ما هو ديني.. والإشكالية ان الغرب عنده قاعدة تقول بأن حرية الإبداع مقدسة حتي فوق المقدسات الدينية نفسها.. وللأمانة ليس الغرب كله يوافق علي ذلك لكن الغالبية تؤمن بهذه القاعدة ولا تري بأسا أن تتطاول علي الذات الإلهية والعياذ بالله.. وقد خرجت بالفعل عشرات الأعمال التي أهانت الأنبياء.. بل ان أحدهم قدم المسيح عليه السلام منحرفا وشاذا وتطاولوا علي البتول مريم سيدة نساء العالمين.. وهو أمر نرفضه في شرقنا من المسلمين والمسيحيين علي حد سواء.
أصحاب جبهة حرية الابداع هنا يقولون ان ظهور الأنبياء بأشخاصهم ليس عيباً أو حراماً.. لأن الأعمال التي تتناولهم هدفها تقديم قصص الأنبياء بلغة العصر وهي الصورة.. وهو ما يخدم الدين.. وأصحاب التحفظ يحاولون غلق هذا الباب لأن من يقدم الأنبياء علي الشاشة.. ينزل بهم من علياء الأفق المقدس إلي الخيال المحدود من خلال ممثل مهما كانت قدراته لن يرتقي إلي مستوي الأنبياء خلقاً وعلماً وقداسة حتي لو لعب الممثل الجديد هذا الدور ثم تواري واختفي بعد ذلك ولم يظهر في عمل آخر كرئيس عصابة أو شاذ باعتبار ان مهنته تجسيد كل الشخصيات الشرير منها والسافل قبل الصحيح والوقور.
الأزهر يحاول حماية الأنبياء لأن هذا الباب إذا تم فتحه لن ينغلق ويري ان هناك وسائل درامية عديدة يمكنها أن تعوض غياب ظهور النبي بشخصه وبشكل مباشر وقد قدم المخرج العالمي مصطفي العقاد رحمة الله عليه نموذجاً بليغاً في فيلمه الشهير الخالد "الرسالة" ونجح في ذلك بامتياز.. وكاتب السطور هذه كرر التجربة في مسلسل تليفزيوني بعنوان "محمد" صلي الله عليه وسلم وقدم مشاهد سيرة الرسول الكريم من خلال بعض الصحابة والاتباع بعيداً عن الخلفاء والمبشرين بالجنة وفقاً لتعليمات الأزهر الشريف ورأي هيئة كبار العلماء وقد تكرموا بالموافقة علي المسلسل في شهادة ترقي إلي حد الامتياز والحمد لله..
ولا بأس أن يقدم المؤلف السينمائي قصة مستوحاة من حياة النبي أو تاريخه.. لكن محاولة التماس والالتباس بحيث يحدث الجدال هل هو؟ أم لا شائكة.. وقد فعلها المخرج الراحل يوسف شاهين في فيلم المهاجر.. في النسخة الفرنسية قال بأنه النبي يوسف.. وفي النسخة المصرية تراجع عن ذلك وأنا كمؤلف درامي لا أري ان حرية الابداع وان كانت محترمة ومطلوبة لا تعني التهليل والطبل والزمر لحساب الشركة المنتجة للفيلم وأرباب المهرجانات الدولية.. والغريب ان هناك من ينساق ويدخل هذه الحرب ويمشي في طوابير يقودها بعض الأسماء من كبار الأقلام الذين يعرفون جيداً عما يدافعون ولماذا وبكم؟ وأنا أعني ما أقول بدون تجريح أو تطاول علي أحد.
في قصة النبي يوسف قدم المحامي الذي رفع ضده دعوي قضائية.. النسخة الفرنسية من السيناريو وتم منع الفيلم لسنوات وحالياً أنا أري ان عملية المنع تخدم الفيلم دعائياً أكثر من السماح بعرضه لكن يظل للأزهر رأيه الذي يجب احترامه لأن منع عرض الفيلم في مصر لن يحول دون عرضه ومشاهدته في مصر بسبل وطرق عديدة في ظل سموات مفتوحة.. وتظل مسألة حرية الابداع أمام قداسة الأديان قضية نعرف الحكم فيها جيداً ونتجاهله!