الوفد
محمود الشربينى
«سلام».. على سالم!
قبل أن تقرأ: ودعت الفنان المسرحي على سالم «بطريقتي»، وقلت «رأياً» فى مواقفه السياسية، خصوصاً رحلته التي قام بها بسيارته من مصر إلى «الكيان الصهيوني»، والتي أسماها «رحلة السلام»! قلت رأياً.. ولكن المفاجأة أنني بدلاً من أن أحظى بمناقشة سياسية لما كتبت، فوجئت بأن هناك من الأصدقاء النبلاء من يقول لي: «لا تجوز عليه سوي الرحمة»، و«مش وقته»!! مع أن «كرامة المبدع مناقشته وليست دفنه».. ففي مناقشته -فقط- استمرار لحياته.. وهذا قمة ما يتمناه المرء!
بعض المدافعين عن «على سالم» يريدون له أن «يموت» من دون أن يقصدوا ذلك، وأردت أن «يُحْيُونَه» من جديد، فإما «يُحَيُونَهُ» عندما يناقشونه ويختبرون صحة آرائهم وقناعاتهم على ضفاف أفكاره، أو «يرفضونه».. أو على الأقل يختبرون قدرتهم على نقاش ديمقراطى «أظنهم» يدعون له ليلاً ونهاراً، ولكن الفجوة هائلة بين هذه «الدعوة» و«القدرة» على التنفيذ!
لابأس.. لابأس.. هكذا هى أحوالنا في العالم العربي.. نجمع بين المتناقضات بامتياز.. نمضغ في أفواهنا كلمة «الديمقراطية» طوال الوقت.. ثم «نبصقها» بعد أن نقضي وطرنا منها.. نستخدمها مثل «واقٍ» ذكري أدى مهمته.. ثم نرميه من دون كلمة شكر واجبه!
أفكار على سالم لا تستحق ممن يؤمنون بها هذا المصير.. فقد تفتحت عيوننا علي إبداعه عندما شاهدنا «أغنية على الممر» ١٩٧٢.. وضحكنا معه -ولا نزال- ونحن نشاهد «مدرسة المشاغبين» ١٩٧٣.. وكلاهما -الفيلم والمسرحية- أرهقنا من أمرنا عسراً.. فـ«أغنية الممر» تتغني بالبطولات والتضحيات.. وأُمُ المفارقات أن حصادها- في ١٩٩٤ - «مُرْ»!! فالفنان الذي غني لتضحيات الجنود انتهي به المطاف داعياً إلي التطبيع مع قتلة هؤلاء الجنود!
أما العمل الثاني وكان من المفارقات أيضاً أنه عرض بعد حرب أكتوبر بأيامٍ قليلة فهو «مدرسة المشاغبين» التي ضحكنا عليها ومعها كلياً، ولكن «حصادها المر» هي الأخري تجلى فى تحول المدارس المصرية إلى «مدارس مشاغبين»، كتبت نهاية عصر التربية والتعليم في المدارس المصرية.
عرفت على سالم في الثمانينات، وأنا أكتب في مجلة «صباح الخير».. كان يستعد لعرض مسرحية «الكلاب وصلت المطار».. وكانت «مغامرة» مسرحية بامتياز.. فقد كان «على سالم» هو المؤلف والمخرج والمنتج والممثل أيضاً!! ولذا قال لى وأنا أسأله عن هذا العرض وماهية رسالته: أنا مقاتل مسرحي ولن أترك المسرح حتي تدخله الراقصات»! ولهذا ردّ عليه سيد راضي قائلاً: علي سالم فاكر نفسه «مسيح مسرح»!
سقطت «الكلاب وصلت المطار» سقوطاً مذلاً وذريعاً مع الأسف، ولم تكن وحدها التى لم يحالفها النجاح، فـ«خشب الورد» التى ألفها على سالم ولعب بطولتها محمود عبدالعزيز سقطت أيضا، وأظن أن هذين العملين كتبا نهاية علي سالم كمبدع مسرحي، فلم يبق له إلا الكتابة الصحفية!
على سالم.. كان من «حرافيش نجيب محفوظ»، وفي عصر فرج فودة، الذي شهد هجومه الحاد علي دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية، ومطلقي دعاوي الحسبة ونصيري التطرف، كان على سالم هو ثاني أعلى صوت في هذه المواجهة.. لكن علي سالم لم يملأ فراغ فرج فودة!
مؤلفات علي سالم المسرحية بقيت، وذهب كتابه عن السلام وذهبت مقالاته المؤيدة للتطبيع، وذهب أصدقاؤه الصهاينة..
على سالم ظل وفياً حتي الرمق الأخير لرحلة الموت المبكر التي ارتحل فيها إلي تل أبيب ولم يجرؤ أبداً على التنصل منها أو يفكر في الاعتذار عنها ومع أن الشهداء العرب يسقطون كل يوم في الأراضي العربية المحتلة، إلا أن علي سالم لم يفكر يوماً في رثاء شهيد منهم أو في نقد أصدقائه الصهاينة الذين يسفكون دماء العرب من المحيط إلي الخليج.. ولم يهتف فينا بأعلي صوته: أنا مع السلام لكنهم دعاة حرب!
اغتالت إسرائيل الأطفال في «بحر البقر» في الستينات، ولم يردعها رادع، من تكرار جرائمها مع الأطفال الفلسطينيين.. وظني أن الدماء التى سالت علي الكراريس، ونزفها بعد ذلك محمد الدرة ومازال ينزفها عشرات الأطفال كل يوم، تستحق كتبا ترد علي رحلة على سالم إلي إسرائيل؟ استغرب أنه- وهو الكاتب والفنان المسرحي- لم ينفعل باستشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة فى حين انفعل به ملايين العرب؟
تهويد القدس وتعريض الأقصي كل يوم لخطر الهدم، بالحفر تحت أعماقه والزعم بأن هيكل سليمان مطمور تحت ابنيته، والسماح بالاقتحام اليومي للمستوطنين المسجد المقدس، وعدم انفعال علي سالم به أمر غريب عجيب!! فقد انفعل بـ«وصول الكلاب إلي المطار» لكنه لم ينفعل بإطلاق النار حتي الموت علي طفل كمحمد الدرة؟! لم يصدق أن الكيان الصهيوني استلب الأراضي الفلسطينية ولا يزال يحتل أراضي عربية، ولا يزال يقيم الجدران العازلة ومازال يغتال ويطارد ويدمر في غزة والضفة ويجتاحها متي شاء!
لم يدفع تمزيق الإسرائيليين لـ«سلام سالم» كل يوم على مراجعة موقفه من الكيان الصهيوني، بل إنه دفعه لقبول جائزتين، إحداهما دكتوراة فخرية من جامعة «بن غوريون»، والثانية خمسون ألف دولار قيمة جائزة الشجاعة من جمعية تراين الأمريكية!
بعد أن قرأتم: تمنيت أن أظل محتفظاً بصداقة مطردة معه، منذ أن التقيته في الثمانينات، لكن صدقوني: لم أستطع ذلك، لم أستطع أن أجعله صديقي.. فقلبي وعقلي رفضا تماماً هذه الصداقة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف