محمد ابو الفضل
محاربة المتطرفين بالقوميين العرب
تبدو هذه الفكرة خيالية لدى كثيرين، ليس لأن الفكر القومى العربى توارى وطواه النسيان، وربما اندثر من عقول أصحابه، لكن لأن الواقع الذى نعيشه يميل
إلى التفتت والتشرذم، وتفضيل القطرية أصلا على القومية، ومع ذلك تستحق القضية فتح باب النقاش حولها، فهناك نخب ودراسات بدأت تتوقف عندها، وتجعلها محل أخذ ورد.
وقد توقفت عندها جهات ومراكز أبحاث عربية وغربية، منها مجموعة الشرق الاستشارية بالولايات المتحدة، حيث اعتبرتها من أهم وسائل التصدى للصراعات الحالية فى المنطقة، ومواجهة غول التطرف الإسلامى الذى انتشر فى دول عربية كثيرة، وأصبح لمن يقفون خلفه روافد وذيول متعددة، تهدد الكيانات التقليدية للدولة العربية، بل تمكنوا من تكوين أشباه دول، أو ولايات فى أماكن مختلفة، أملا فى محو الشكل الراهن للواقع العربي، ونقله إلى مربع جديد، يعيد فى أذهان أصحابه فقط ذكريات لم تستمر طويلا، لها ظروف ومتطلبات فرضت الحاجة إليها فى حينه، ليس هنا مجال تفصيلها.
كما أن هناك فئة من أنصار الخطاب القومى العربي، جذبتهم الفكرة البراقة، عقب تمدد إيران، واعتمادها على خطاب قومى وشوفيني، واتساع نطاق الحركة أمام النعرة الكردية فى كل من العراق وتركيا، وتحاول الأخيرة منذ فترة تعبيد الطريق أمام عودة الخلافة العثمانية، كأحد أحلام القيادة الحاكمة فى تركيا، ناهيك عن الطموح الإسرائيلى للهيمنة، بالتالى بدأت النزاعات تأخذ اتجاها قوميا متصاعدا، لم يكن من المتوقع أن يحتدم بهذه الصورة، لكن لأن هناك قوى إقليمية ودولية قامت بتغذيته، كان من الطبيعى أن تصل النتيجة إلى أشبه بالصراع المستتر بين القوميات، وهو شكل آخر يسير بالتوازى مع الشكل المعلن من الصراع المذهبى والطائفي، الذى بات أمرا مألوفا.
البيئة الإقليمية القاتمة التى تستند خلافاتها على أسس قومية ودينية ومذهبية، دفعت قطاعا من القوميين العرب للحنين نحو الماضي، والتباحث حول إعادة إحياء المشروع العربي، الذى اختفي، بعد سلسلة من الصعوبات كانت قد واجهته، وفشل ذريع لحق به، تسبب فى صدمة لعدد كبير من دراويشه ومؤيديه، وأدى إلى إجبار مجموعة من أخلص أبنائه للقيام بمراجعات موضوعية .
الحاصل أن التطورات الغامضة التى تمر بها المنطقة، وتستهدف فى جانب معتبر منها دولا عربية عدة، وفرت أجواء مناسبة لاستدعاء هذا المشروع، خاصة بعد قصقصة الأجنحة الرئيسية التى لعبت دورا فى الترويج له من قبل، كل على طريقته، فالعراق يكاد يكون خرج من المنظومة العربية، منذ أحكمت إيران قبضتها على مفاصله الرئيسية، وليبيا انتهت تقريبا، حيث تشرذمت، بصورة مكنت المتطرفين من السيطرة على مناطق كبيرة فيها، وسوريا تناطح وتنتظر من ينقذها، وبقيت مصر الصامدة فى وجه الرياح والأعاصير.
لذلك رأت بعض الدوائر أن الاعتصام بالقومية العربية قد يكون الملاذ الأخير، مع إدخال تعديلات تتناسب مع روح العصر ومقتضياته، ومحاولة تجنب مرحلة الإخفاقات السابقة، من هنا تردد الحديث عن الأمن القومى العربى فى الخطاب الرسمى المصري، وتكرر أنه خط أحمر، الأمر الذى منح فكرة القومية زخما مضاعفا، ظهرت تجلياتها فى التمسك بإنشاء قوة عربية مشتركة، ومع أنها لا تزال تواجه عقبات جمة، غير أن المقدمات السياسية والاجتماعات الأمنية، أوحتا بأهمية الحاجة إليها، وعدم استبعاد تدشينها قريبا، ناهيك عن الشعار الإعلامى الذى خاضت بموجبه السعودية الحرب فى اليمن، وهو «التحالف العربي» أو ما يعرف اصطلاحا بـ «عاصفة الحزم»، والذى تشارك فيه نحو عشر دول، أى غالبية الدول المؤثرة فى الحل والعقد بالمنطقة العربية.
تجدد الخطاب القومى العربى هذه المرة لم يكن شعبويا، يدغدغ مشاعر الناس البسطاء، ليلتفواحول فكرة، تحقيقها أو حتى الترويج لها يمثل خطرا على قوى كبيرة، كما كان خلال عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بل استند على محاور عملية، تقوم على فكرة المصلحة السياسية المشتركة، وحماية الأمن الذى أصبح مهددا من دوائر متعددة، منها دول وجماعات متطرفة ومسلحة، ومراعاة الظروف التى تمر بها المنطقة، بمعنى هو مشروع دفاعى وليس هجوميا، لا يبغى التمدد ولا يهدف للتسلط والسيطرة، لكنه يرمى إلى وقف الغارات السوداء التى تستهدف المزيد من التقسيم المادى والمعنوى لعدد من الدول العربية.
عندما بدأت فكرة المشروع العربى الجامع تتردد فى أذهان البعض، كان الخطر الداهم المتعصبين بشتى أطيافهم، سواء كانوا إيرانيين وأتباعهم، أو متطرفين إسلاميين وأنصارهم، أو حتى أتراك وإسرائيليين وأذنابهم، والجميع لديهم مشروعات متصادمة مع المشروع العربى الغائب، وعندما بدأت الفكرة تختمر أكثر وتراود البعض للشروع فيها، كانت معاول الهدم تتزايد داخل عدد من الدول العربية، وهو ما جعل قيادات وزعامات عربية تشعر بمزيد من القلق والخطر، من مغبة مواصلة الاتجاه التفتيتي، مدعومة من نخب سياسية وثقافية وإعلامية متباينة، وتحرضها على ضرورة الاحتماء بالمشروع القومى العربي.
الفريق العربى الحالم، اعتمد على قراءة تتسم بقدر من الطيبة فى مكوناتها، تقوم على وحدة الخطر، لكنها تجاهلت أن أحد أسبابه تآمر أو تقاعس بعض الدول العربية، فمعظم المشروعات التى تمثل تهديدا حاليا أو مستقبليا تسهم فيها دول عربية، بل تحركها من خلف ستار، وأحيانا تحركها أمام الستار، ومن يتذكر مشاهد الأزمة السورية منذ اندلاعها وحتى قبل بضعة أسابيع، يتأكد أن أهم عناصر زيادة تأزيمها كانت عربية، كذلك الحال بالنسبة للأزمة الليبية، وربما تكون اليمن نجت من المقصلة العربية، لأن التداعيات والانعكاسات كانت ستكون وبالا على هؤلاء، وعندما أحرقته نار من خارج المنطقة العربية، انتفضت جهات عربية لإنقاذه، من جنوبه إلى شماله، سعيا وراء تطويق شراراته.
هنا بيت القصيد، حيث كان أحد أبرز أسباب فشل المشروع القومى العربى سابقا، صدام المناوئين له مع القائمين عليه، وكلاهما من العرب، وإذا كان الفريق الأول (المناوئون) تلقى دعما خارجيا لتخريب المشروع، فإنه فى الوقت الراهن أشد اعتراضا، وليس بحاجة لمساعدات خارجية قوية، لأن الدول المحورية، والتى كانت تمثل رافعة مهمة فى الماضي، تآكل أو تلاشى دورها، مثل العراق وليبيا وسوريا والجزائر، ولم يبق تقريبا سوى مصر، التى لديها حسابات دقيقة، تمنعها من المجازفة والتصدى بمفردها لمسألة إطفاء الصراعات عبر مشروع عربى جديد محفوف بالمخاطر.
لكن قد يتحول المشروع الخيالى إلى واقعى لمواجهة المتطرفين، شريطة أن يتم تطعيمه بمظلة دولية متينة، تجنبه ألاعيب بعض الجهات العربية، خاصة من قاموا ( ومازالوا) بالاستثمار السياسى فى رعاية ودعم المتشددين.