الأخبار
فرخندة حسن
ليلي دوس .. تلميذتي التي كنت أقف لها احتراماً
كان عطاء ليلي دوس بدون حدود لم تتخلف منذ شبابها يوماً عن أي عمل تحتاجه مصر والمثير للإعجاب أنها شاركت قبل رحيلها بفترة قصيرة وهي علي كرسي متحرك في ثورة 30 يونيو

عندما دخلت إلي قاعة المحاضرات في بداية الفصل الدراسي في أول الثمانينيات ووقفت أنظر إلي الطلبة الجدد، لمحت علي المقعد الأخير في الطرف الأيمن من الصف الأول، ليلي دوس. لم أتمالك نفسي من إبداء شعوري بسعادة بالغة ممزوجة بدهشة، وحاولت استيعاب الموقف فكيف أكون أستاذة لهذه السيدة العظيمة التي تملأ الدنيا خيراً وبركة نتيجة أعمالها وعطائها الذي يعرفه أغلب المصريين وكل من يعمل في العمل العام. لم أستطع أن أكتم انفعالي وذهبت لمقعدها أحييها وأرحب بها في هذا المقرر الذي أقوم بتدريسه في الجامعة الأمريكية حتي الآن وهو «استكشاف الكون» (Exploration of the Universe) وهو مقرر يتناول طبيعة الكون ونشأته وكيف تتكون المجرات والنجوم والكواكب وحركة الأجرام السماوية التي هي أساس التقويمات علي اختلافها سواء التقويم الشمسي أو القمري أو غيرهما. كانت «لي لي» كما كان الكل ينادونها مثالاً للطالبة المجتهدة المهتمة بكل صغيرة وكبيرة وبكل كلمة تخرج من فمي وتسجَّل بدقة كل شيء وعندما كانت تقصدني في سؤال ما، كنت بدون أي وعي أقف لها احتراماً، ومازلت أذكر حفلة الجامعة بيوم التخرج عندما اعتلت ليلي دوس المنصة لتتسلم شهادة تخرجها من رئيس الجامعة ريتشارد بدرسون وقد ارتجت القاعة من شدة التصفيق من الحاضرين من الطلبة وهيئة التدريس وأولياء الأمور إعجاباً وانبهاراً بهذه السيدة التي التحقت بالجامعة وهي في حوالي الخامسة والستين ولم تكتف بالليسانس بل سجَّلت للماجستير في الأدب المقارن وحصلت عليها.
كانت ليلي دوس طالبة جادة وملتزمة وهذا ليس بغريب عليها فقد كانت كذلك منذ كانت شابة صغيرة، لم تكن شخصية عادية فعندما أنهت دراستها الثانوية في مدرسة القلب المقدس في القاهرة ورفض والدها حينذاك التحاقها بالجامعة استسلمت لرغبته ولكنها لم تستسلم للوضع المتعارف عليه في ذلك الوقت بل تمردت ورفضت الزواج ممن تقدموا لها بما فيهم ابن امبراطور الحبشة، ووجهت كل قدراتها إلي خدمة المجتمع فالتحقت بجمعية الهلال الأحمر المصري وعمرها تسعة عشر سنة، هكذا كانت شخصية ليلي دوس التي تبلورت نتيجة للبيئة التي نشأت فيها سواء كانت البيئة الأسرية الخاصة أو المناخ المجتمعي الذي ترعرعت فيه.
ولدت ليلي دوس في أول يوليو من عام 1917 من أسرة ميسورة الحال وعاشت طفولتها في أسيوط التي كان جدها لوالدتها حبيب شنودة عمدة لها في وقت ما. كان مجتمع أسيوط يضم كبار العائلات المصرية المسلمة والمسيحية المتلاحمة مع بعضها البعض دون أي تعصب مما أكسب «لي لي» سماحة غير عادية مشهود لها. كما كان للحراك السياسي والاجتماعي الذي ساد مصر وصاحب فترة ثورة 1919 وما بعدها أثر كبير في شخصية «لي لي» وأكسبها وعياً ونظرة مستقبلية عميقة وكان مثلها الأعلي هو كل من دافع عن المرأة وحقوقها من الرجال مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين ولطفي السيد ومحمد عبده ومن النساء هدي شعراوي وسيزا نبراوي، هذا بحسب ما ذكرته في مذكراتها التي تضمنتها في كتابها «عشت وشوفت». ولعل من يقرأ الكتاب يجد أنه ليس سيرة ذاتية بقدر ما هو وصف الجزء من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي في الحقبة الزمنية التي عاشتها.
كرست ليلي دوس حياتها قبل أن تتم عامها العشرين للعمل العام، فعندما كان مرض الدرن (السل) منتشراً في مصر بشكل وبائي كوَّنت هي ومجموعة من صديقاتها هن شريفة محرز رفيقة درب «لي لي» ونعمة برزي ودرية علوبه وعايدة علوبه وزكية عزيز وإيفي محمود والأخيرة كانت سيدة بريطانية متزوجة من مصري هو رئيس جمعية الهلال الأحمر المصري في ذلك الوقت، جمعية لرعاية مرضي السل وأسرهم بعد أن لمسوا علي أرض الواقع الفقر المدقع الذي كان يجبر مريض السل علي عدم الاستسلام للعلاج المنظم سعياً وراء توفير لقمة العيش لعائلاتهم. كانت السيدات السبع هم أعضاء الجمعية وكانت قيمة الاشتراك عشرة قروش لكل منهن وبذلك كان رأس مال الجمعية سبعون قرشاً فقط واستئجرن شقة صغيرة في حارة دولت فاضل في حي عابدين واختاروا للجمعية اسم «تحسين الصحة» حتي يكون الهدف هو الرعاية الصحية عامة وليس فقط مرضي الدرن، من هذه الشقة الصغيرة انطلقت الشرارة الأولي لعمل عظيم مازال متواصلاً حتي يومنا هذا. كان التمويل بالطبع أحد التحديات التي واجهت الجمعية الوليدة فهداهن تفكيرهن إلي إقامة الأسواق الخيرية بدأت بتقديم أطعمة شعبية من صنع أيديهن مثل أطباق العدس وبيعها بالإضافة إلي مشغولات يدوية بسيطة. بعد عام واحد من إنشاء الجمعية أي في عام 1937 وصل رأس مال الجمعية إلي ألف جنيه فتحوا بها حساباً خاصاً في بنك مصر. لاقت الجمعية قبولاً وترحيباً من أهل الخير وبدأت التبرعات سواء مادية أو عينية تتدفق علي الجمعية. ولمزيد من تنمية الموارد أقامت الجمعية الحفلات الخيرية ولعل أشهرها تلك التي أقيمت في دار الأوبرا وأحيتها متطوعة السيدة أم كلثوم وكانت تحت رعاية وحضور ملكة مصر في ذلك الوقت جلالة الملكة فريدة وقدمت فيها الفنانة تحية كاريوكا متطوعة أيضاً استعراضاً رائعاً.
وهكذا تركت ليلي دوس بصمتها علي العمل الاجتماعي في مصر بصورة نادرة يصعب تكرارها، رحم الله ليلي دوس وأكثر من أمثالها. كانت دائماً تحلم بالجنة كما جاء في مذكراتها فاجعل يارب الجنة مثواها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف