ما معنى أن يقضى اثنان وعشرون شابّاً مصريّاً على باب ملعب كرة قدم، فتنهدم أحلام اثنتين وعشرين أمّاً تعسة؛ تحوّلت فى لحظة من أُم قريرة العين إلى ثكلى حزينة تتعرف للمرة الأولى على ثوب حداد يدثّرها وشريط أسود يعلو صورة وليدها الذى كان قرّة عينها وعين أبيه؟
لم يمت أولئك الشباب الغضّ على جبهة مصر الشريفة حيث ترخص الأرواح فداءً لترابها. ولم يموتوا فى حوادث الطرق المروّعة شأن عشرات المصريين الذين يقضون يوميّاً على جنبات الطرقات وتحت عجلات سيارات سائقوها غائبةٌ عقولهم بفعل المخدّرات التى اعترف سائقون أنها من صميم طقوسهم اليومية قبل قيادة سيارات النقل واللورى والمقطورات، وليذهب القانون واحترام أرواح المارّة إلى الجحيم. لم يفقد أولئك الشباب الصغير أعمارَهم فى مستشفيات مصرية، مجانية أو غير مجانية، نتيجة خطأ طبىّ جسيم من طبيب تخدير غير مهنىّ، أو جرّاح مهمل، أو ممرضة فاشلة، أو إدارة غير حكيمة؛ كما اعتدنا أن نسمع به من الألسن ونقرأ عنه فى الصحف حتى غدا خبراً عاديّاً غير لافت للانتباه، ولا مثيراً للغثيان والوجع، فى حين أن خبراً مثل هذا يقيم الدنيا ولا يقعدها فى دول أخرى تحترم قيمة الإنسان وتبجّل روحه وتعرف كيف تحميه من الفوضى والإهمال وانعدام المهنية والطمع، وتمنحه تأميناً صحيّاً شاملاً يتساوى فيه الغنى والفقير، والوزير والخفير، لأن لكليهما حقّاً أصيلاً فى الحياة يجب أن تؤمّنه الدولة والحكومة. إنما ذهب للموت أولئك الفتيان طواعيةً وهم يحملون أعلام ناد رياضىّ يحبونه وهم يعدون أنفسَهم بساعة ونصف من المتعة واللهو والفرح أثناء مشاهدة مباراة كرة قدم. ماتوا على أبواب الاستاد قبل دخوله. ماتوا اختناقاً بالغاز أو دُهست أجسادهم تحت الأقدام نتيجة التدافع والأنانية وعدم الاكتراث بحقوق الآخر شأننا فى الطوابير على أبواب السينمات وأمام أفران الخبز ومستودعات أنابيب البوتاجاز. القانون المصرى فى الطوابير هو: «أنا ومن بعدى الطوفان». أولئك الفتيان رحلوا عنّا وعن ذويهم وتركوا أمهاتهم لدموع لا تجفّ؛ لأننا شعب فوضوى لا يعرف النظام ولا أخلاق التجمهر.
تلك أمور تتعلمها الشعوب فى طفولتها فى المدارس منذ طابور الصباح وتحية العلم. نتعلم فى طفولتنا أن حفاظنا على النظام هو الضمانة الوحيدة لا للسلامة وحسب، إنما للوصول أسرع إلى الهدف الذى نتجمهر من أجله. نتعلّم فى طفولتنا أننا يجب أن ندفع ثمن ما نأخذ. لكنها «الفهلوة» المصرية التى هى أخطر على مصر من إسرائيل والإخوان معاً.
حكى لى صديق أنه شاهد مسجداً غير مكتمل بناه أحد الميسورين منذ سنوات ولم يتمّه. فقرر صديقى أستاذ الجامعة أن يستكمل بناءه صَدقةً جارية للمصلّين. وبالفعل استكمل الناقصَ من تراخيص وطلاء وتزويد بالمياه وغيرها. ثم جاء للكهرباء وتوقف كل شىء. رفضت شركة الكهرباء تزويد المسجد بالوصلات! لماذا؟ لأنهم يخشون أن يقوم سكّان الحى بسرقة وصلات إنارة من المسجد لبيوتهم وهو أمر معتاد فى الأحياء العشوائية بمصر، وما أكثرها! إنها ثقافة شعب يحب بعضُه أن يأخذ سلعةً دون أن يدفع ثمنها، وأن يجور على حقّ أخيه وأن يزاحم وأن يخزّن سلعاً لا يحتاج إليها فتقلّ من السوق ويرتفع ثمنها. فى كل منحى من مناحى الحياة فى مصر ستجد غولاً رابضاً أمامك اسمه «الفوضى». ابحثوا عن هذا الغول المتوحش واقتلوه لأنه هو قاتل أبنائنا وهو معطّل حياتنا وهو عدوّ مصرَ الأول وقاتل مجدها الذى نحاول أن نستنهضه فيستعصى علينا. لأن الفوضى والمجد خصمان لا يجتمعان فى بلد واحد.