مؤمن الهباء
عبدالناصر.. الماضي والحاضر
* مفتتح: قل في جمال عبدالناصر ما شئت وما تشاء.. لكنك لا تستطيع أن تنكر أبداً أنه كان زعيماً وطنياً مخلصاً لشعبه وأمته.. أنجز الكثير من المشروعات الاجتماعية والاقتصادية الناجحة وكانت رؤيته الوطنية والقومية مستقيمة.. لكنه أفسد كل ذلك بديكتاتوريته واستبداده.. نجح مشروع نهرو في الهند لإقامة دولة حديثة تمتلك القنبلة النووية وأرسلت مراكبها إلي الفضاء لأنه قام علي حرية الشعب والديمقراطية الحقيقية ودولة المؤسسات وانهار مشروع عبدالناصر لأنه قام علي حكم الفرد ولم يؤمن بالشعب ولا بالحرية والديمقراطية إلا في الخطب والأغاني.
* مشهد أول: مات عبدالناصر يوم 28 سبتمبر 1970 الموافق 27 رجب.. ونشرت الصحف في أسبوع الحزن قصيدة للشاعر صالح جودت يقول فيها: "أمع الإسراء نادته السماء.. كدت أن أحسبه في الأنبياء.. ياأبا الشعب وباني مجده.. كلنا بعدك في اليتم سواء".. كنت في عامي الأول بالمدرسة الثانوية.. وقد وقع علي الاختيار لألقي هذه القصيدة التي حفظتها عن ظهر قلب في الإذاعة المدرسية أثناء طابور الصباح.. وبلغ من تأثري أن غلبني البكاء عند بعض أبياتها فكنت أتوقف ثم أعيد البيت.. وبعد أن انتهيت هنأني مدير المدرسة علي مهارتي وقدم لي جائزة تفوق عبارة عن كشكوك 60 ورقة بتوقيعه وخاتم المدرسة مازلت أحتفظ به حتي اليوم.. والعجيب انني.. وبعد مشوار طويل من الوعي والنقد للذات وللآخر وللقصيدة وصاحبها ولعبدالناصر وتجربته.. مازلت أستحضربعض الأبيات ومازال البكاء يغلبني عندها.. هل هو الحنين إلي عبدالناصر أم الحنين إلي الحزن الجميل والشعر الجميل؟!
* مشهد ثان: عندما أعلن خبر وفاة عبدالناصر غطي الحزن بيتنا وبيوت القرية كلها.. الشعور باليتم يجتاح الجميع.. الكبير والصغير.. وفي الصباح تم تنظيم جنازة رمزية يتقدمها نعش محمول علي الأكتاف ومغطي بمفرش أخضر مزخرف.. ثم سرعان ما تحولت الجنازة الرمزية إلي جنازة حقيقية اجتمعت لها أعداد هائلة من كل الطوائف والطبقات.. راحت تجوب شوارع القرية ثم انطلقت إلي المركز لتلتحم مع جنازات أكبر.. كان المشهد مهيباً والنحيب عالياً من الرجال والنساء.. الكل يبكي عبدالناصر.
لكن العجيب في الأمر أنه لم يكد يمر عام واحد حتي نسي الناس كل ذلك.. وتعلقوا بالحاكم الجديد الذي سار علي خط عبدالناصر بأستيكة.. وفي 15 مايو ..1971 أي بعد 7 أشهر ونصف الشهر.. أعلن السادات ثورة مايو "الشهيرة" التي انقلب فيها علي رجال عبدالناصر وحاكمهم وسجنهم بتهمة الخيانة دون أن يواجه معارضة حقيقية من تلك الجماهير الهادرة التي كانت تهتف بالأمس لعبدالناصر.. كان الانقلاب واضحاً علي خط عبدالناصر.. وكانت الحرية كل الحرية لمن يشوه عبدالناصر ويقدح فيه.. ولم يكن متاحاً لأحد أن يدافع عن الزعيم المحبوب الذي مات.. والذي ترك البلد دون مؤسسات ديمقراطية حرة تستطيع أن تقول "لا" في وجه الحاكم إذا حاد عن الطريق.
* مشهد ثالث: كان يحلو للسادات أن يقارن بينه وبين عبدالناصر في خطبه العلنية خصوصاً بعد أن توترت أعصابه في أعقاب أحداث 18 و19 يناير ..1977 كان يفاخر - عن حق - بأنه انتصر في 1973 وعبدالناصر هزم في ..1967 وبعد توقيع كامب ديفيد كان يطلق علي نفسه بطل الحرب والسلام.. وقد مات - رحمه الله - وفي حلقه غصة من أنه لم يصل إلي المكانة الشعبية التي وصل إليها عبدالناصر وهذه حقيقة.. فعبدالناصر مات مهزوماً نعم.. ومات ديكتاتوراً نعم.. لكنه لم يتحالف مع أعداء وطنه وأمته.. ولم يضحك علي الناس بديمقراطية مزيفة وأحزاب مصنوعة.. كان عبدالناصر - رحمه الله - ديكتاتوراً واضحاً.
* مشهد رابع: يوم الاثنين الماضي - 28 سبتمبر - كنت أقود سيارتي في سفر طويل وبجواري ابنتي "18 سنة".. وعند الظهيرة أدرت مؤشر الراديو إلي محطة الأغاني التي تذيع عادة في هذه الفترة مونولوجات فكاهية لفنانين أمثال إسماعيل ياسين وشكوكو وثريا حلمي وسيد الملاح.. وأنا أحبها وأعتبرها فناً راقياً.. لكننا فوجئنا بأن الإذاعة غيرت برنامجها احتفالاً بذكري وفاة عبدالناصر ووضعت بدلاً من هذه الفقرة أغنيات لعبدالوهاب وعبدالحليم وشادية تتغني بجمال عبدالناصر وأمجاده.. وهي أغنيات - في رأي ابنتي - مضحكة جداً - قالت: كيف تصدقون كل هذا الكذب الغنائي؟!.. الفرق بيننا وبينكم أننا لا نصدق إلا إذا رأينا بأعيننا كيف نمشي علي الصحرا تخضر.. وكيف نعلن الاشتراكية ع العبودية والرجعية.
هوه كلام وخلاص؟!