د/ شوقى علام
أخلاق العملية الانتخابية (1)
لا شك أن رقي الأمم إنما يكون بقدر عمق ثقافتها في تقدير المصلحة العليا للمجتمع، فحيثما ساد ذلك في ضمير الفرد فإننا سنرى مستقبلًا زاهرا بالمعاني
العالية وسنجد محاولات للوصول إلى الكمال من قبل أفراد المجتمع كلهم، كل في موقعه. ولا ريب أن الانتصار على الذاتية في هذه الحالة يصب في صالحها وفي صالح الكل، وإننا نحتاج لكي نصل إلى هذه الرتبة الراقية، وهي الانتصار على الذات وتقديم المصلحة العامة على الخاصة ما دام لم يمكن الإتيان بهما جميعا، نحتاج إلى أن تشيع لدينا التضحية بجملة من الأمور استقرت في واقعنا فترة طويلة من الزمن مورس من خلالها الكثير من التصرفات التي لم نر فيها ظهور ثقافة تقديم المصلحة العامة على الخاصة، بل سيطرت المصلحة الذاتية وتمت التضحية بالعامة في كثير من الأحوال، وقد ظهر ذلك جليا في الاختيار في الانتخابات على أساس القبيلة والعائلة دون اعتداد بمعايير الكفاءة في المرشح للعملية الانتخابية.
إن فقه علماء المسلمين أنتج نظريات متكاملة في هذا الإطار، فوضع هذا الفقه أسسا لفهم متكامل للموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين المصالح العامة والخاصة، وهكذا.
فعندما تطالع ما كتبه العلامة سلطان العلماء العز بن عبدالسلام الشافعي في كتابه القيم: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وما كتبه تلميذه القرافي المالكي في كتب عديدة له منها الفروق، والإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، وتطالع ما كتبه غيرهما من فقهاء المسلمين، فإنك تدرك هذا الجهد المبذول والتأصيل الدقيق، لمسألة مهمة تضبط العلاقات المتشابكة في تصرفات الفرد والجماعة، وذلك على نحو غير مسبوق، بل استفاد منه غيرهم. وإنزال هذا إلى أرض الواقع يتمحور في اتجاهين: اتجاه يتعلق بالمرشح، والثاني يتعلق بالناخب.
فأما ما يتعلق بالمرشح فمن المسائل المهمة في هذا الشأن تحديد معيار (الكفاءة)، وهويعني اختيارَ من له القدرة على القيام بالعمل وَفْق مسئوليات هذا العمل، ويختلف هذا المعيار من عملٍ لآخر، وقد تكلَّم فقهاءُ المسلمين عن هذا المعيار وأهميته في كثيرٍ من المواضع، خاصةً تلك التي تتعلَّق بالعمل العامِّ؛فتكلَّموا عن كفاءة الحاكم، وكذلك القاضي؛ استدلالًا بقولِ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58]، وأداءُ الأمانات والحكمُ بين الناس بالعدل لا يكون إلا من حاكم أو قاضٍ له من المواصفات والقدرات ما يُؤهِّله لأداء الأعمال المنوطة به. بل إنهم وإمعانًا منهم بالاعتداد بهذا المعيار لم يقتصروا فيه على العمل العامِّ فحسب؛ بل أدخلوه حتى في العلاقات الشخصية والأسرية ما دامت له أطرافٌ متعددة، ولو كانت طرفين فقط، كما هو الحال في عقد الزواج، فنصَّ الفقهاءُ على أهمية الكفاءة بين الرجل والمرأة، وهي من العوامل الأصيلة لاستقرار الأسرة وتحصيل مصلحتها.
ولم يقف التشريع في اعتبار هذا المعيار عند حد العقود والمعاملات، بل أصَّل لذلك حتى في العبادات التي بين العبد وربِّه؛ فقال صلى الله عليه وسلم فيمن يَؤُمُّ الناسَ في الصلاة: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا، وَلَايَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّابِإِذْنِهِ» [مسلم (1/465)].
والتجربة تُثبت أن اعتبارَ المعايير في شخص المرشح هو الأساس في تقدُّم المجتمعات؛ إذ ستُناط بهذا المرشح مسئولياتٌ كبيرة، إذا لم يكن على قَدْرها وليست عنده الـمُكنة للقيام بها فإنه بلا ريب ستَفُوت على المجتمع مصالحُ جمَّةٌ مُعتبَرة.
وفيما يتعلَّق بالمرشح، ففضلًا عن استيفائه للشروط التي وضعتها القوانين لتقديم أوراقه، من لزوم إلمامه بالقراءة والكتابة، وشرطِ السن،واجتيازِه للكشف الطبي- وهي شروط تمثل الحد الأدنى لقبول المرشح- فإن هناك مسئوليةً أخلاقيةً يُمليها عليه الضميرُ الإنساني، تتمثَّل في شعورِه الداخلي بقدرته على القيام بالمهامِّ الكبيرة لهذه العضوية، والذي يُحدِّد ذلك الشعورَ هو المرشحُ نفسه؛ إذ هو (أمين على نفسه)، وتلك قاعدةٌ كبيرة اهتمَّ بها فقهاء المسلمين في مواطنَ عدة، خاصة في الأمور التي لا يمكن للناس الإطلاع عليها فيمن يأتمنونه على مصالحهم ومقدَّراتهم.
إننا نريد الارتقاءَ بثقافة المجتمع إلى البحث عن المصلحة الحقيقية له، وتقديرُ هذه المصلحة مسئولية جليلة تقع على المجتمع كلِّه.
وإذا كنا في حاجة دائما إلى مثل هذه الأخلاقيات في كل زمان ومكان، وفي كل المواقع، فنحن أحوج إليها الآن في هذه الأوقات الفارقة في تاريخ أمتنا المصرية العريقة، حتى يكون كل إنسان في المكان المناسب لكفاءته، من أجل مصلحة الدولة وبالتبعية مصلحة الفرد.