بسيونى الحلوانى
مشاهد من إيطاليا.. الانبهار وحده لايكفي
كل من يسافر إلي دولة أوروبية ويعود منها إلي بلده العربي أو الإسلامي يتحسر ويتألم علي ما آلت اليه سلوكيات الناس في الشوارع والاماكن العامة.. ففي الغرب نظام والتزام واحترام للآخرين وتعامل بين الناس برفق ولطف وذوق.. وفي بلادنا العربية والاسلامية.. أو علي الأقل كثيرا منها.. فوضي وسوء أدب وعدم احترام لآدمية الانسان.
في الغرب نظافة وجمال وإبداع ونظام في كل شيء.. وفي بلادنا العربية قمامة وأتربة هنا وهناك.. فضلا عن الصور القبيحة المنفرة التي تنتشر في شوارعنا وعلي سياراتنا وعلي جدران المنازل.. وفي الشوارع والميادين والاماكن العامة تختفي صور الابداع وتقل المناظر واللوحات الجميلة. ويتصرف الناس كبارا وصغارا علي سجيتهم.. ويرتكبون كل ما لذ وطاب من السلوك الخشن والقبح اللفظي بفطرية غريبة.
وهكذا تأتي المقارنة دائما في صالح الغرب. فهو في نظر معظم العرب والمسلمين رمز التحضر والرقي.. أما نحن - العرب والمسلمين - فالسمة الغالبة علي سلوكياتنا العامة والخاصة هي الفوضي والعشوائية والتخلف وقلة الذوق.. وأحيانا قلة الأدب.
هذه الصورة ليست عالقة بأذهان بعض المثقفين الناقمين علي أحوالنا فحسب.. بل هي للأسف عالقة بأذهان كثير من المترددين علي المجتمعات الغربية والذين يقارنون دائما بين ما يحدث علي أرضنا وما يشاهدونه في الغرب.. بين ما يحدث في هذه البلاد التي تعلمت الحضارة والتقدم والرقي علي ايدينا في الماضي واتقنت السلوك الحضاري.. وبين أمة تخلت عن مبادئ وتعاليم دينها وأهملت قيم وأخلاقيات حضارتها.
هذه المقارنة مطلوبة ومرغوبة دون انبهار بالآخر وجلد للذات ينتهي بالكثير غالبا الي احتقار الذات واتباع الاخر والسير علي نهجه في كل شيء.
***
تسعة أيام قضيتها مع أوائل الثانوية العامة في ست مدن إيطالية من خلال رحلة جريدة الجمهورية السنوية لتكريم نوابغ شباب مصر. وطوال هذه الايام وفي كل جولاتنا شاهدنا ابرز المعالم الثقافية والأثرية لايطاليا.. شاهدنا معالم التحضر والرقي في بلد يعاني من مشكلات اقتصادية وصراعات سياسية ولكن شعبه يصر علي تحدي كل المشكلات والازمات ويعمل وينتج ليعيش حياة مستقرة.
في كل مكان ذهبنا اليه كانت المقارنة حاضرة وكانت صور الفوضي والعشوائية وقلة الذوق وسوء الادب الذي نشاهده في شوارعنا يوميا يدعونا الي التحسر علي التردي الاخلاقي الذي وصلنا اليه.. وتزداد الحسرة عندما ندرك ان الصور المنفرة والسلوك القبيح الذي نشاهده في بلادنا لا علاقة له بديننا ولا بحضارتنا من قريب أو بعيد.
ما نعاني منه من اهمال لقيم النظام والنظاقة واحترام الوقت واحترام الممتلكات العامة هو من صنع انفسنا. فهذه الامور ضبطها ديننا بميزان حساس. وجاء فيها بعطاء إنساني وحضارة مبهرة.. فنحن في سلوكياتنا لا علاقة لنا بما يحض عليه ديننا وهذا ما سجله الامام محمد عبده عندما ذهب الي فرنسا سنة 1881م وقال بعد عودته عبارته الشهيرة والمجسدة للمفارقة الغريبة بين ما عاشه هنا في البلاد العربية وخصوصا في مصر وما شاهده علي الطبيعة في باريس : "وجدت إسلاما بلا مسلمين.. وفي بلادنا مسلمون بلا إسلام".
***
وهذا يعني أن كل ما يبهرنا في الغرب من نظام ونظافة ورقي في التعامل بين الناس. وحرص علي العمل والانتاج. واحترام المال العام. والتعامل مع وسائل المواصلات والممتلكات العامة بتحضر. ومساعدة القوي للضعيف في الشارع. وغير ذلك من سلوكيات راقية وتصرفات متحضرة.. كل ذلك منبعه الاساسي تعاليم وتوجيهات ديننا.. ولذلك نحن لسنا في حاجة الي الاقتداء بالغرب لنرتقي ونتحضر ونطهر مجتمعاتنا من هذه السلوكيات المرفوضة وهذه الاخلاقيات السيئة.. بل نحن في أمس الحاجة الي الالتزام بتعاليم ومبادئ ديننا ففيها كل ما يقودنا الي التحضر والرقي في السلوك والتعامل والحياة بوجه عام.
كل من يعرف "ألف باء إسلام" يدرك جيدا ان هذا الدين العظيم دين نظام وانضباط سلوكي واخلاقي. وهو يفرض علي المسلم ان يكون منضبطا في كل تصرفاته. ملتزما في سلوكه. مقدرا لكل خطوة يخطوها. مدركا لعواقب كل تصرف يصدر عنه. وكل كلمة ينطق بها. ولذلك فان الفوضي والعشوائية التي تنتشر في كثير من بلادنا العربية والاسلامية تمثل عدوانا صارخا علي قيم الاسلام واخلاقياته.
في ايطاليا ادركنا ان رقي الأمم وتحضرها ليس شعارات تتردد هنا وهناك. بل هو سلوك واسلوب حياة يرتقي بالانسان ويدفعه الي العمل والانتاج.. وعلينا دائما ان نتذكر ان الاسلام دين فرض علي كل من يؤمن به ان يكون منظما يؤدي الواجبات الدينية والوظيفية والاجتماعية والانسانية بحرص واخلاص وتفان. ديننا يلزمنا باحترام النظام الذي ارتضاه المجتمع والقانون الذي يطبق علي الجميع. وهذا جانب مهم للغاية في ضبط السلوك الانساني الذي يقود صاحبه الي الرقي والتحضر.