شعبان يوسف
شكري عياد كاتبًا للقصة القصيرة
هناك هوى جارف لدى كثير من النقاد نحو كتابة الإبداع، وهذا الهوى يصل أحيانًا إلى درجات عليا من الدأب والاستمرار فى التجريب والتطوير والريادة، وهذا ما فعله مثلًا الدكتور لويس عوض، عندما كتب الشعر، ونشره، وأصدر ديوانه الأول والأخير، واختار له عنوانًا غريبًا على الذائقة العربية والمصرية، وهو «بلوتلاند»، ولم يكن العنوان فقط هو الذى ينطوى على تلك الغرابة، لكن الشعر نفسه كذلك، هذا الشعر الذى تقمّص السونيتات الإنجليزية الشيكسبيرية، وراح يعمل على تمصيرها.
وأعتقد أن الأكاديمى وأستاذ الأدب العربى، محمد مصطفى بدوى، كتب بعده مثل هذا النوع من الشعر، وكذلك جرّبه صلاح الدين عبد الصبور فى حدود ضيّقة، ونشرها عام 1956 فى مجلة كتابات مصرية ، والتى كان يصدرها فى ذلك الوقت الناقد محمود أمين العالم، وكان فى ذلك الوقت متحمّسًا لتجربة عبد الصبور حماسًا ملحوظًا.
والأدهى من هذا وذاك أن الشعر الذى جاء فى بلوتلاند هو الغريب مثل العنوان، لكن الصيحة التى أطلقها فى مقدمة الديوان حطِّموا عمود الشعر هى التى كانت أغرب، وأكثر إثارة على الدهشة، مما اختزنها له حرّاس الأمجاد العربية، وردّوا عليه بكثير من القسوة فى ما بعد، وكان قد أصدر عددًا من الإبداعات الأخرى فى الرواية والمسرح.
ولم يكن لويس عوض صوتًا نشازًا بين النقاد والأكاديميين الذين اقتحموا عالم الإبداع، فكان قبله أستاذه الدكتور طه حسين، الذى كتب الشعر فى مستهل حياته، ثم كتب القصة القصيرة كذلك، وكانت أبرز كتاباته مجموعته القصصية المعذَّبون فى الأرض ، وكذلك كتب الرواية، ومن أبرز هذه الروايات دعاء الكروان ، والتى تحولت فى ما بعد إلى فيلم سينمائى، قامت ببطولته الفنانة فاتن حمامة.
وعلى هذا المنوال كتب الدكتور عز الدين إسماعيل المسرح والشعر، وأحمد كمال زكى كتب القصة القصيرة والشعر، وعبد الغفار مكاوى كتب الشعر والمسرح والرواية والقصة القصيرة، والدكتور طه وادى كتب الرواية، وعبد الرحمن بدوى كتب الشعر، ومحمد حسن عبد الله كتب القصة القصيرة، وصولًا إلى الأجيال الحديثة من الأكاديميين، مثل الدكتور سيد البحراوى الذى كتب القصة القصيرة والرواية، وكذلك الدكتور حسين حمودة الذى بدأ كتابة شعر الفصحى مع جيل السبعينيات، ثم هجره وكتب القصة القصيرة، ثم هجرها وكتب شعر العامية، وأصدر كراسة صغيرة ضمَّت هذه التجارب من شعر العامية.
هذه نماذج من الأكاديميين على سبيل المثال، وليس الحصر، لأن هذا الحصر والاستقصاء والرصد يحتاج إلى مجال آخر غير هذا المقال، الذى يراد منه إلقاء الضوء على أحد كبار هؤلاء الأكاديميين، والذى خاض فى بحر القصة القصيرة بامتياز، أقصد الدكتور شكرى عياد، الذى عرفه الناس فى بداية حياته كاتبًا للقصة القصيرة، وذلك عام 1937 عندما نشر قصتين فى مجلة الجامعة التى كان يصدرها محمود كامل المحامى، ومجلة الرواية عام 1938 التى كان يصدرها أحمد حسن الزيات، وكان عيّاد فى ذلك الوقت لا يزال طالبًا، وهذا يدل على أنه بدأ فنانًا وكاتبًا للقصة مبكرًا قبل أن يدخل المجال الأكاديمى.
ورغم أنه درس الأدب وقدّم فيه رسائله العلمية، الأولى رسالة الماجستير عن وصف القرآن ليوم الحساب عام 1948، والثانية هى رسالة الدكتوراه عن تأثير كتاب الشعر لأرسطو فى الأدب العربى عام 1952، فإنه لم ينسَ ولم يترك فن القصة القصيرة، ولكنه راح يكتب وينشر ويترجم لها، وفى النصف الثانى من عقد الأربعينيات من القرن الماضى، كوّن هو ومحمود عبد المنعم مراد ومحمود الشنيطى جماعة أصدقاء الأدب الروسى ، وأنجز عيّاد ترجمة رواية المقامر لفيودور ديستوفيسكى، ونشرها له الدكتور طه حسين فى مطبوعات دار الكاتب المصرى، ثم ترجم اعترافات منتصف الليل لجورج ديهاميل، وكان قد اعتبرها كبار النقاد الفرنسيين من أعظم اثنتى عشرة رواية كُتبت فى فرنسا فى النصف الأول من القرن العشرين، وكتب لها عيّاد مقدمة وافية تحت عنوان محنة الفردية فى الأدب المعاصر .
ورغم انشغالات عيّاد النقدية والأكاديمية فإنه كان يعتبر نفسه كاتبًا للقصة القصيرة أولا، ثم ناقدًا وأكاديميا ومترجمًا ثانيا، ولذلك كان يكتبها بإخلاص وفنيات عالية، ولا يخضع إلى النظريات النقدية التى يقوم بتدريسها، وكان يطير فى فضاء الإبداع دون أن يترك نفسه نهبًا لتأثير تلك النظريات، وقد أصدر ست مجموعات قصصية، وهى على التوالى: ميلاد جديد و الطريق إلى الجامعة و زوجتى الجميلة الرقيقة و رباعيات و حكايات الأقدمين و كهف الأخيار ، وقد أصدر رواية وحيدة هى طائر الفردوس .
وفى أول مجموعة قصصية صدرت لعيّاد عام 1958 وهى ميلاد جديد ، قدّم نفسه للقارئ فى هدوء وتواضع شديدين، إذ كتب فى مستهل المجموعة، وبحروف مميزة: أيها القارئ الكريم.. إننى أدسّ نفسى فى الزحام لأصل إليك، لست أريد أن أتملقك بهذه الكلمات، ولا أريد أن أفاخر بعدد النسخ التى تباع من هذا الكتاب، لا بأس علىّ إن كنت استعرته من مكتبة عامة، أو أخذته من صديق، فأنا قرأت معظم كتبى بهذه الطريقة، لكننى أرجو أن تشعر حين تضع كتابى أنه ملكك أنت، إن هذه القصص كتبت لك حقا، لم تكتب لتفرض عليك عواطفى الصادقة أو المدّعاة، وأفكارى الصحيحة أو الخاطئة، لكنها انتظرتك لتعيش فى جانب من ذهنك لتذكرها -ربما بعد بضع سنين- فى شطحة من شطحات خيالك.
أيها القارئ الكريم: خذْ هذا الكتاب إليك برفق! ترفق به أو اقس عليه، فلا شأن لى به حتى تقول إنه كتابك، وعندئذ سأقول أيضًا إنه كتابى.. يا قارئى العزيز هذا الكتاب لا شىء حتى تؤلفه أنت! .
هكذا قدّم شكرى عيّاد نفسه وقصصه وكتابه لأول مرة فى كتاب قصصى، ضم قصصًا لا تنقصها الفنيّات العالية التى كان الكتّاب فى ذلك الوقت يجاهدون من أجلها، من هذه القصص فى العيادة، شباب، ديستوفيسكى والسكير، الكوميدى… .
وفى قصة الثأر ، التى نشرها فى مجلة صباح الخير فى العدد الصادر بتاريخ 13 فبراير 1958، أى بعد صدور المجموعة مباشرة يواصل عيّاد مغامراته القصصية الكبيرة، ليكون واحدًا من مبدعى هذا الفن الكبار، رغم البعد النقدى الأكاديمى الذى يعمل على إغفال دوره الإبداعى الرائد.