نعم الفيلم انتهى بإجابة مفتوحة، ولكن لو دققت التأمل لاكتشفت أنها تفتح القوس ولا تغلقه، تجعل الباب مواربا فهى ليست نهاية، ولكنها تبدو بداية أخرى.
الرسالة التى وصلتنى هى أنه برغم كل شىء سوف يعود العاشقان مجددا، وأن التمرد كان فقط لحظيا، ولكن الحب يتغلب حتى على تلك العوائق النفسية، أتحدث عن الفيلم المفاجأة الذى قدمه مهرجان برلين لضيوفه احتفالا بعيد الحب، وعرضه على هامش المهرجان فى تلك الدورة خمسين ظلا لجراى ، الظلال كما أراها هى الجوانب المسكوت عنها فى شخصية البطل جراى ، هناك دائما تفاصيل غير معلنة لكل إنسان مهما كانت الملامح الخارجية تقول شيئا آخر.
الشاب الوسيم الثرى، ولكن هناك فى العمق شىء غامض فى تكوينه النفسى يحيله إلى العنف المفرط، ورغم ذلك فإن هذا الاكتشاف لم ينف عنه أبدا رومانسيته المفرطة أيضا، فهو فيلم عن الحب مهما كانت المعالجة تحمل قسوة.
لو ألقيت نظرة على كل الأفلام التى قدمها العالم عبر التاريخ من المؤكد سوف تكتشف أن ما يجمعها فى النهاية أنها تنطوى على قصة حب كامنة، ولكن يظل أن هناك أفلاما ينطبق عليها تعبير رومانسية، أى أنك تضعها فقط فى هذا الإطار فهى التيمة الأشهر عبر التاريخ.
دائما هناك المثالية والتحليق العاطفى فى التعبير عن مشاعر الحب، وأغلبها تتعثر قبل الوصول إلى شاطئ الأمان، ليظل هناك خيط رفيع يمنحها حياة مع الزمن من خلال سؤال يتردد: ماذا لو نجحت تلك العلاقة وتغلبت على كل الصعاب وقفزت فوق كل الحواجز هل كان الحب بعدها سيستمر؟ والتعبير عن الحب أنماط وأشكال متعددة، ولا تتوقف المسيرة السينمائية عن إيجاد دائما المختلف، الذى ينطوى أيضا على مفاجأة، هناك دائما للخيال مناطق أشبه بالقفزات، تنطلق إلى مناطق أبعد، قافزة فوق تلك الحكايات الصادمة ليتطلع إلى آفاق أرحب وأبعد فى العمل الفنى، حتى ولو كان هذا فى جانب منه يرفضه الإحساس الجمعى لبعض الثقافات، وهكذا مثلا من الممكن أن تجد قصص حب دافئة تجمع بين مصاصى الدماء، فهم يتبادلون العشق والهيام، كل شىء ممكن، وبرغم مثلا أن الشباب فى العادة يمثلون المرحلة العمرية الأكثر تعبيرا عن الحب، ولكنك يمكن أن تعثر على تنويعات أخرى كثيرة، هى الأفلام التى تناولت الحب، وقبلها بالطبع الأشعار والروايات، ومع تعدد تلك الأنماط يبدأ خيال السينمائيين فى البحث عن معادلات عاطفية أخرى غير تقليدية، تحاول أن تُمسك بخيط لإثارة نهم الجمهور، أو أن يذهب إلى منطقة غير مأهولة سينمائيا، وهو ما يفتح الباب أمام السينمائيين للدخول أكثر إلى تعقيدات النفس البشرية.
مثلا الفيلم النمساوى الشهير حب لميشيل هانكة، وهو المخرج الذى صار عنوانا بارزا للسينما النمساوية والحاصل على عشرات من الجوائز، منها سعفة كان و الأوسكار قبل نحو ثلاث سنوات لأفضل فيلم أجنبى، وحقق الفيلم إيرادات ضخمة عند عرضه فى العالم، ولكن مع الأسف عند عرضه فى مصر كعادة الأفلام غير الأمريكية لم يلق حظا جماهيريا، رغم أنه فى الحقيقة يستحقه، ولكن هذه قصة أخرى، قدم لنا الفيلم قصة حب عابرة للزمن، لأننا وجدنا الحبيبين فى الثمانين من عمرهما، والزوج يساعد زوجته على القتل الرحيم قبل أن يلحق بها، وصلتنا بقوة تلك المشاعر، ولا ينجح العمل الفنى فقط كشريط مرئى، بل أحيانا تصبح من فرط النجاح موسيقاه تحمل دلالة خاصة مثل فيلم قصة حب ، الذى شهد نجاحا أسطوريا فى السبعينيات من القرن الماضى انعكس على موسيقاه التصويرية، التى لا تزال هى الأكثر دلالة فى العالم كله على الحب، فهى موسيقى عابرة للتاريخ وللجغرافيا، صارت تستدعى على الفور حكاية الحب، فيلم تيتانيك تجرى أحداثه الواقعية عام 1912، ولكن المخرج جيمس كاميرون أطل من الزمن الحالى من خلال امرأة عجوز، لنكتشف أنها كانت فى شبابها كيت ونسليت ، ومات حبيبها ليوناردو دى كابريو وهى تستعيد حكايته، يريد الفيلم أن يقول وقتها مر 80 عاما على الحادث، ولا تزال المرأة التى أحبت تعيش على الذكرى.
لكن مهرجان برلين قرر أن تكون إطلالته مختلفة فى هذه الدورة، التى تحمل رقم 65، وأن يُقدم أيضا لرواده مفاجأة لفيلم انتظره عشاق الفن السابع فى العالم كله، ليعرض فى عيد الحب 14 فبراير، ولكنهم دفعوا به قبلها بثلاثة أيام داخل دار العرض على سبيل الاستثناء، ليصبح هو هدية عيد الحب لعشاق مهرجان برلين.
الفيلم الذى تنتظره الآلاف من دور العرض فى أوروبا وأمريكا خلال ساعات، هو الحدث الذى قرر المهرجان أن يداعب من خلاله جمهوره، وهكذا تدافع الصحفيون فى العرض الخاص لفيلم 50 ظلا لجراى ، وأمام العدد الضخم الذى امتلأت به صالة السينما قبلها بساعة، قررت إدارة المهرجان أن تمنح الصحافة فرصة أخرى فى موعد مسائى، الفيلم مأخوذ عن رواية حققت ملايين من المبيعات للكاتبة أى ال جيمس ، وهى رواية جريئة بنفس العنوان تتناول علاقة حب بين شاب سادى يبحث عن فتاة مازوخية، وعلى الجانب الآخر تجد متعتها فى تلقى العذاب ممن تحب، ويبدو فى عدد من المشاهد كأنه يدربها لكى تدخل إلى هذا العالم.
والمازوخية هو المرض العكسى للسادية، الفيلم بطولة داكوتا جنسون وجيمى دورمان وإخراج سام تليور جونسون، الفيلم يترك الباب مواربا بعد أن تتحمل ضربات فى المشهد الأخير، عندما يستعطف البطلة وترفض ولكنه يناديها: إنستاسيا ، فترد عليه: كريستيان ، وكأنها العودة رغم كل الظلال التى رأيناها فى الفيلم. بالطبع الفيلم يعرض رسميا ولكن خارج المسابقة، وكم شاهدنا فى المهرجانات أفلاما تتعرض لهذا الجانب المسكوت عنه، مثلا قبل عامين عرض مهرجان كان فيلم فينوس فى الفراء للمخرج رومان بولانسكى، بينما حصل عليها الفيلم الفرنسى الأزرق الأكثر دفئا للمخرج التونسى كشيش، والغريب أنه كان يتناول العلاقات السحاقية.
***
ويأتى من رومانيا داخل المسابقة الرسمية فيلم عفارم ، الذى يتناول قصة تجرى أحداثها عام 1835 فى مطاردة الغجر للمخرج رادوجودى، حيث التصوير والأجواء بالأبيض والأسود والموسيقى الساحرة، التى تأخذ من الفولكلور الذى يمزج الشجن بالمرح، وينتهى الفيلم الذى ينتقد تاريخيا موقف رومانيا من المختلفين معها عرقيا مثل الغجر، وكيف أن قائد الشرطة فى نهاية الأمر ينفذ العقاب القاسى على الغجرى باغتيال رجولته ونزع خصيتيه بوحشية، ويطلب من زوجة الغجرى وبدم بارد فى نهاية الأمر أن تبحث لها عن زوج آخر، الفيلم سيمفونية إبداعية من الطراز الرفيع، حيث إن الصحراء تلعب دورها وتبدو رمالها كأنها تعزف لحنا شجيا وسط هذه الصحراء الممتدة، إنها رحلة صوت وصورة وإحساس وغدا نُكمل تفاصيل الصورة من برلين، الذى تعلن جوائزه مساء الغد!!