كان دافعاً للسؤال: كيف ستواجه الإرهاب والخطاب الدينى المتخلف بينما تمنع مهرجاناً فنياً يشمل تقديم الموسيقى والغناء مجاناً وبيع الأعمال والمشغولات الفنية للمواطنين بأسعار زهيدة؟ المهرجان الممنوع اسمه الفن ميدان، وكان يقام فى ميدان عابدين كل شهر، ثم بدأ حثيثاً يزحف على المحافظات، فمُنع! لا بد أن المواطن الذى سيشهد موسيقى وغناء عن الحب والحرية والعدل سيفكر مرات قبل أن يقبل مقولات الإرهاب والتخلف الذى يحرضه على أن الغناء والموسيقى حرام، لا أعتقد أن الأمن غير قادر على تأمين (صوان) يجتمع فيه جمهور للفرح والأمل والغناء، أعتقد أن ما يتم منعه هو المضمون نفسه، ومنع الأمل والفرح عند الناس وحبسهم فى ذواتهم، كيف تقنعون الناس أنكم تحاربون الإرهاب بينما أنتم تتفقون معه فى منع البهجة والغناء والكلمات الطيبة؟ إنها كلمات تُمنع، ولكنها كلمات لا شك أنها تصنع ثقافة وأفكاراً أخرى جديدة محل تلك القديمة، سواء كانت أعرافاً أم ميراثاً اجتماعياً رجعياً، أم تديناً لا حقيقياً، كلمات تُمنع وكانت تُقال فى العروض المسرحية التى تعرض للجمهور مجاناً، وهى بالقطع كالروايات والحكايات والقصص الأدبية تقلل من انتشار القصص الدينى غير الحقيقى، انتشار القصص والحكايات والقصص الواقعية يقلل من انتشار الخرافات وحكايات الأساطير والأوهام، وانتشار الفنون والآداب تاريخياً ساهم فى منع انتشار التطرف الدينى، وحديث العلم والعقل والفكر والنقد اختزل كثيراً من أحاديث اللا معقول والغيبى والجن والسحر وكل ما شابه من الخرافات، بل جعلها أضحوكة وأمثولة للتندر على التخلف العقلى والزمنى، هذه القيم النبيلة التى تتعارض مع الإرهاب ومع خطاب دينى رجعى تترسخ فى مجتمع يسمح بتقديمها فى عروض فنية وفى كتب وحوارات، والمجتمع المصرى نفسه قبل 1952 دليل على ذلك، فمظهر المرأة وملبسها وطبيعة علاقتها مع الرجل، وكذلك حضور المواطن المسيحى على قمة السلطة التنفيذية، وصدور كتب من عينة الشعر الجاهلى ولماذا أنا ملحد تدل على أن السلطات الديكتاتورية التالية أحادية الفكر لا تسمح أبداً بالتعددية فى أى من مجالات الحياة، التعددية تعنى المساواة، وإنكار التعددية يعنى عملياً إنكار المساواة، والفن لا يمكن أن يحيا إلا فى ظل التعددية، الاستبداد ضد التعددية والمساواة والحرية، أهل الثقة عنده لا يتساوون مع أهل الكفاءة، والأقربون لأسباب سياسية أو نفعية أو طائفية لا يتساوون مع غيرهم من المواطنين والأخيرين لن يقدموا الفن الأحادى الذى تطلبه هذه السلطات وترضى عنه وعن ذويه وترى أن ما عداه خطر ومؤامرة، سلطات تريد دعاية لا فن! إنها نفس الفكرة الدينية التى يرى أصحابها أنهم الحق وما عداهم شر، فكرة الأحادية وما عداها شر وخطر ومؤامرة هى بنيوية فى نظم الاستبداد سواء كانت دينية أم مدنية أم عسكرية، ولذا يسهل بينهم تبادل المنافع والمواقع، المواطنون المحرومون من الفنون والحوار والأفكار المتعددة هم زاد التطرف من حيث يتصور الاستبداد أنه يمنعهم من الوقوع فى براثنه، وما ساهم فى انتشار الجماعات الدينية فى مصر والدول العربية هى تلك السلطات القمعية التى استولت على السلطة فى منتصف القرن الماضى بانقلابات عسكرية أو التى تم توحيدها والاستيلاء على السلطة فيها بقوة السلاح، تلك البلدان تمنع الحوار والاختلافات فازدهر فيها الفكر الأصولى مما دعا مواطنيها لأن يسألوا أنفسهم إذا كانت الحقيقة فى فكرة واحدة والنظام الحاكم فى تنظيم واحد فلنذهب إلى أصل الواحدية فى الدين ونظامه يقدم لنا السلوى والعزاء فى الدنيا ثم يضمن لنا الجنة فى الآخرة.
أعيدوا «الفن ميدان».