يوسف القعيد
مذبحة الشباب في وزارة التربية والتعليم
هل من المعقول أن تعين مدرسة بلدها الأصلي هي البحيرة معلمة في محافظة الشرقية؟ وربما كانت متزوجة ولها أسرة في البحيرة. ومن المستحيل أن تأخذ أسرتها معها في الشرقية
حدثتني مسئولة في مجلس مدينة إيتاي البارود. لن أدون اسمها لأني لم أستأذنها في أن يكون الكلام علي لسانها. وإن كنت قد توقفت أمام الجانب العام في كلامها لأنه يمس العصب العاري في المجتمع المصري والدولة المصرية. ألا وهم الشباب.
وما جري أنه في أغسطس الماضي تم الإعلان أن وزارة التربية والتعليم قامت بتعيين 30 ألف شاب وشابة في وظيفة معلم. ورغم هذا الإعلان فإن من عينوا كانوا 24 ألفا فقط. وهو رقم لا بأس به يسهم بشكل ما في مواجهة غول البطالة الخطر الحقيقي الذي يهدد شباب مصر.
العاطل عن العمل خاصة من أتم تعليمه وهو يحمل شهادة عالية أو متوسطة يتحول بعد البطالة لإنسان لا منتمي. لا يرتبط بمعاني الوطن. وليس مستعداً أن يكون جزءاً من المجتمع. لأنه يشعر بالظلم. العاطلون عن العمل في مصر بعضهم أكمل عشر سنوات علي إكمال تعليمه وهذا يجعلنا ندرك حجم الجحيم الذي نسلمهم له.
لن أغفل ما نواجهه من فكر متطرف وأفكار قتَّالة توجه أساساً للشباب هم البيئة الحاضنة لهذه الأفكار. ومن لا يعمل لا يبقي لديه سوي أن يستخدم لسانه في الكلام وأذنيه في الاستماع لما يقال. وتقبل ما يسمعه دون غربلة أو إعمال عقل لأن بطالته تجعل عقله غائب.
لذلك أعتبر أن أي وزارة من الوزارات تقوم بتعيين أي إنسان مصري لا بد أن نشكرها. لأن الناس في الشارع تقول أن البند الأول في مشروع الحكومة - أي حكومة - أنه لا تعيين لديها لأحد. وأن التعيين ممنوع حتي بالمكافآت غير الثابتة.
أعود لشباب وزارة التربية والتعليم. جري تعيين 24 ألف شاب. ولكن انظر لمآسي توزيعهم الجغرافي. وقبل أن أحكي عما جري للشباب أقول أننا في الستينيات كانت مصر تراعي تعيين الشاب في محافظته. لأن ذلك أفضل له ولعائلته. ويمكنه من القيام بعمله بطريقة أفضل.
هل أقول أن الشاب في الستينيات إن أراد أن يعمل في محافظة غير محافظته. لا بد أن يقدم أسباباً تقبلها الإدارة لتنقله خارج المحافظة. لأنها تعتبر أن ذلك وضع غير طبيعي ولا يجب الموافقة عليه. ثم هل يمكن أن أمارس نرجسيتي وأقول أن روايتي: أيام الجفاف. بطلها خلف الله البرتاوي خلف الله مدرس من المنصورة يتم نقله كنوع من العقوبة للعمل في البحيرة. فتكون النتيجة أن يصاب بالجنون.
هذا ما كان في مصر. ولكن تعالوا ننظر إلي تعيينات الـ 24 ألف شاب الأخيرة. هل يعقل أن يعين شاب من صعيد مصر مدرساً في جنوب سيناء؟ كيف سينتقل من قريته ويصل لجنوب سيناء؟ هل قمنا بعمل حساب انتقاله في الذهاب والعودة؟ ولو افترضنا أنه سيعود لأهله شهرياً. فهذا معناه أن نصف مرتبه سوف يذهب للانتقال في السفر والعودة.
هل من المعقول أن تعين مدرسة بلدها الأصلي هي البحيرة معلمة في محافظة الشرقية؟ وربما كانت متزوجة ولها أسرة في البحيرة. ومن المستحيل أن تأخذ أسرتها معها في الشرقية. فمن المؤكد أن زوجها يعمل. فكيف ستوفق أوضاعها؟ لقد صدرت قرارات التعيين كأنها فرمانات همايونية صادرة من الباب العالي العثماني لا يجب مناقشتها ولا مفر من تنفيذها عندما ندرك بحر البطالة الذي يأكل أرواح شباب مصر الآن سنعرف أن التعيين يوشك أن يكون عقد إذعان. التعليمات من طرف واحد والتنفيذ من طرف واحد. وأننا أمام طرفين: طرف قوي والآخر ضعيف. والضعيف في هذه المعادلة القاسية هم شباب مصر الذين كنا نقول عنهم في ستينيات القرن الماضي: نصف الحاضر وكل المستقبل.
جري هذا في ولاية وزير التعليم السابق. ونفذه وزير التعليم الحالي. وحتي عندما جاءني خبر يقول أن الوزير قرر إعادة النظر في توزيع المدرسين الجدد حسب احتياجات المدارس. ولم يقل أبداً الوزير الجديد أنه يعيد النظر في توزيع المدرسين الجدد علي أساس السكن الجغرافي. وهو تعبير من الستينيات أيضاً.
من الذي ينصف المعلمين الجدد من المذبحة التي خطط لها وزير. ثم جاء لينفذها وزير آخر؟ لن أطنب في الكلام عن المعلم والدور الذي يقوم به. ولن أذكر نفسي ولا غيري ببيت من الشعر قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في الربع الأول من القرن العشرين:
قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا
هذا هو المعلم الذي كاد أن يكون رسولاً نأتمنه علي مستقبلنا ولا نوفر لحاضره أي قدر من الراحة الإنسانية المطلوبة لأي إنسان علي وجه الأرض.