الأهرام
يوسف القعيد
تسع سنوات فى الخنادق
الزمان: مصر. المكان: ديسمبر سنة 1964. كنت فى طريقى إلى الإسكندرية. بالتحديد معسكر مصطفى كامل. حيث توجد منطقة تجنيد الإسكندرية التى تختص بتجنيد كل مواليد الوجه البحري. والبحيرة التى تنتمى لها قريتى فضلاً عن أنها ملاصقة للإسكندرية. فهى إحدى محافظات شمال غرب الوجه البحري. كنت مطلوباً للجندية.

ربك والحق غضبت أمى كثيراً. وأخفى أبى انزعاجه. فلم يكن هناك سبب واحد لإعفائى من الخدمة. لست وحيد أبويَّ. طابور من الأشقاء والشقيقات يقف ورائي. كما أنى لم أنتظم فى التعليم الأزهري. وأختم القرآن الكريم وأصبح «فقى». ولهذا السبب أعفى من الخدمة.
كما أننى لا أعانى من أى مرض يمنعنى من أداء الخدمة. نظرى ضعيف هذا صحيح. والنظارة الطبية أصبحت جزءاً من وجهي. لكنها لا تمنع من أداء الخدمة. سمعت بعض الشباب قبل توقيع الكشف الطبى علينا يتكلم عن شىء فى القدم اسمه «فلات فوت» يمكن أن يعفى من الخدمة. وخلع أحد شباب الإسكندرية حذاءه. ليرينا بطن قدمه مستوية تماماً ومسطحة. وقد أعفى من الخدمة فعلاً. عن نفسى كنت مقبلاً على الأمر باعتباره تجربة جديدة فى حياتي. تخرجنى من سياق عمرى الذى استمر حتى هذه اللحظة.

لم يكن لديَّ مانع من التجريب. ثم إننى سمعت فى قريتى من شبان يكبروننى فى العمر أن فترة التجنيد هى فترة التكوين الحقيقى فى حياة الإنسان. رياضة، نوم بميعاد وصحيان بميعاد، وطعام صحى يتم إعداده بمعرفة أطباء. وسفر وانتقال من مكان إلى آخر. قلت لنفسى لماذا لا أجرب؟ لن أكذب وأدعى وأتكلم عن الدفاع عن الأوطان ضد الأعداء. لأن فكرة الدفاع جاءت بعد ذلك.

ولأننى لم أكن أعرف الإسكندرية جيداً فى ذلك الوقت. مع أنها أول مدينة أراها فى حياتي. عندما اصطحبنى أبى ـ يرحمه الله رحمة واسعة ـ فى مرحلة الشباب الأولى معه. بالتحديد إلى سوق الجملة فى الحضرة مع والدى حيث كان يذهب لبيع الخضر والفاكهة التى كان يزرعها من أجل البيع فى هذه السوق. وصلنا وقتها إلى الإسكندرية ليلاً. كنا نركب سيارة نقل البحيرة، أجلس بجوار والدى فى الكابينة مع السائق. بينما «التباع» فى الصندوق الخلفى للسيارة ينام على راحته فى الهواء الطلق ويوهمنا أنه يحرس «النقلة».

أول ما رأيته من الإسكندرية مازلت أذكره كأننى أراه الآن. ضوء النيون لونه أخضر. ما كنت أتصور أن الأضواء يمكن أن تكون خضراء أبداً. فالخضرة تملأ قريتي. خضرة الحقول التى تلتقى عند آخر الأفق بزرقة السماء. لكن خضرة الضوء التى فاجأتنى مازالت تعنى بالنسبة لى أننى أدخل مدينة.

كانت سوق الحضرة قد جرى افتتاحها مؤخراً. وقد افتتحها الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه. ومعظم الذين كانوا فى السوق من التجار أصحاب الوكالات والباعة السريحة والموظفين من أبناء الصعيد. جاءوا من قلب الصعيد الجواني. لم يكن الصعيد مجرد مكان لتصدير الرجال لكل مكان فى مصر. بقدر ما كان عزوة حقيقية تقدم بشرا من نوع خاص، كأنهم يختلفون عن المصريين القادمين من أى مكان آخر فى مصر. كان الانتماء للصعيد يسبق فكرة الانتماء لمصر. وكلمة صعيدى تقابلها كلمة بحراوي.

شرح لى أبناء البلد طريقي. قالوا لى تنزل من القطار فى محطة سيدى جابر. وتمشى على قدميك باتجاه البحر. وهناك تجد منطقة التجنيد. من السهل الاهتداء إليها حتى بدون سؤال أحد. الكل يعرفها. وباعة الأطعمة السوقى وصناع الشاى والمعسل. وباعة ما يحتاجه المجند من أربطة الأحذية الميرى والورنيش وولاعات السجائر أو الكبريت وغيرها مما يبحث عنه المجند ينتشرون حول المعسكر من كل جانب.

هذه المنطقة لم يعد لها وجود الآن. مكانها مستشفى مصطفى كامل العسكري. الذى يقدم خدماته للمدنيين مقابل أجور رمزية كنوع من الخدمات التى تقدمها القوات المسلحة للمدنيين. والباقى عبارة عن عمارات سكنية عالية. تمتد وتستمر حتى شاطئ البحر. والمعسكر لم يعد له وجود. أعاود السؤال عنه كلما ذهبت إلى الإسكندرية مؤخراً. قيل لى إنه نقل خارج الإسكندرية حتى يخلى مكانه لهذه المساكن. المخصصة مصايف للضباط.

تحركت من قريتى مبكراً. مع بكة الشمس. حتى أكسب يومى وأتمكن من تسليم نفسى للتجنيد قبل نهاية اليوم. كان لا بد من المرور على المركز أولاً. مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة. سألت عن مندوب التجنيد. أعطانى بطاقة التجنيد. ذكرته أننى متوجه الآن إلى منطقة التجنيد، حتى يكف عن السؤال عنى فى قريتى من وقت لآخر. ويعرف أننى جندت فعلاً. وفى كل سؤال منه وإجابة من أبى لا بد من البقشيش والإكرامية والذى منه. الحد الأدنى الذى يمكن أن يقبل به باكو دخان وكوب شاى ثقيل يمكنك الكتابة به قبل أن يستأذن فى الانصراف. وكنت قد حصلت على تأجيل تجنيد حتى أنتهى من تعليمي.

مندوب التجنيد كان صولاً. يضع على كتفيه «أسبولايت» خاليا من «الدبورات والنجوم والنسور» وهى علامات الرتب العسكرية. والصول كنا نقولها نحن المدنيين. ولكننا عرفنا بعد التجنيد أن مسماها العسكرى هو: مساعد. وهناك مساعد أول. وذلك بعد أقدمية معينة فى رتبة المساعد. وبعدها يصبح ضابط شرف. ملازم أول شرف. أى أنه مُرقى من تحت السلاح. بالعربى الفصيح ليس خريجاً من الكلية الحربية.

الصول كان متقدماً فى العمر. جلد على عظم. ذكرنى منظره بالممثل المعروف ـ أو الذى كان معروفاً فى ذلك الوقت البعيد ـ شفيق نور الدين. الذى لمع فى مسرحيات تشيكوف المليئة بالسأم. ومسرحية: عيلة الدوغرى للمرحوم نعمان عاشور. حيث كان يقوم بدور على الطواف. ومسرحيات سعد الدين وهبة خاصة مسرحيته: سكة السلامة. وإن كنت لم أعد أذكر الدور الذى لعبه فى هذه المسرحية.

ووسط ثرثرة مازلت أذكرها. تكلم خلالها الصول مندوب التجنيد عن غربته فى هذا البلد البعيد. لم يتكلم أبداً عن بلدته التى اغترب عنها من أجل الوظيفة. أعطانى الخطاب الموجه إلى منطقة تجنيد الإسكندرية. خرجت من المركز. توقفت فى باحته الخارجية. وفكرت فى خطوات رحلتى القادمة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف