الأهرام
عزت السعدنى
الساحرة المستديرة.. تقتل عشاقها!
الساحرة هنا لست تلك الساحرة الشريرة التى ترتدى زغبوطا أسودا وتركب عصاة سحرية تطير بها فى الهواء.. كما فى الأساطير وحكايات ألف ليلة وليلة وروايات الرعب وأفلام القتل فى ظلام الليل فى أساطير الشعوب..
ولكنها هنا تلك الساحرة الشريرة التى تنشر الفرح والمرح وباقات الزهور فى ملاعب الدنيا كلها.. ولكنها بقدرة قادر وبفعل فاعل ربما.. أو بلعبة الأيام التى تحرك أيد خبيثة فى الظلام تحولت فى بلادنا نحن إلى ساحرة شريرة تقتل أصحابها وتسيل دم عشاقها ومحبيها من خلق الله الذين جاءوا ليشاهدونها وهى فى أبهى حلة وأجمل صورة.. ويتمتعون بسحرها ودلالها.. ويصفقون لها.. عندما تحرز الأهداف فى مرمى الخصوم.. وتكيد الأعادى بالنصر المبين.. ليخيب ظنهم وينتصر شيطان الكيد.. ويسقط العشاق من الشباب الصغير وأسرهم التى جاءت تفرح معهم بالنصر فى يوم عرس الساحرة المستديرة.. التى حولها الكائدون وقبيلة الشر إلى دم وقتل وشباب صغير سقط صريعا بفعل فاعل اسمه الإهمال وقلة العقل.. وكيد الكائدين..



لو اجتمع عمنا الفريد هيتشكوك مخرج الكوارث والنواكب وحوادث القتل الجماعى فى السينما الأمريكية.. مع أعظم كاتبة روايات بوليسية فى العالم التى اسمها أجاثا كريستى.. وللعلم فقد قابلتها شخصيا يوما ما قبل رحيلها عن عالمنا فى فندق الونتر بالاس فى الأقصر ـ مع ملك الروايات البوليسية الذى اسمه شرلوك هولمز ذلك المفتش الرائع الذى لا يفلت من بين يديه مجرم مهما تفنن ومهما تلاعب ولبس طاقية الإخفاء فهو فى النهاية وقبل أن يسدل الستار ممسوك.. ممسوك فى دار عمنا شكسبير نفسه الذى قتل أبطال رواياته أو معظمهم بالسم أو بغيره فى مسرحياته التى تقطر دما وسما زعافا.. بداية من ماكبث وهاملت إلى عطيل والملك لير التى يتصارع فيها أبطالها حتى الموت.. وراحوا يبحثون فى دماغهم ويقدحون زناد فكرهم وهمهم.. لكى يبحثوا عن مشهد مرعب يشيب له الولدان.. ويهز مشاعر الجماهير.. ويزلزل القلوب ويسيل الدمع مدرارا من العيون لما وجدوا أبشع ولا أشد هولا.. من ذلك المشهد المرعب الذى حدث ليلة مباراة فى كرة القدم بين الزمالك وإنبى.. وهى مجرد مباراة فى الدورى المصرى جرت فى القاهرة تحت سمع وبصر المسئولين الكبار فى بلدنا..

والمشهد المرعب الذى لم يكن مكتوبا أصلا فى سيناريو الفيلم الدامى: الجماهير من الشباب الصغير يتدافعون داخل ممرات ضيقة صنعوها فى قلب أقفاص حديدية تماما كأقفاص القرود فى حديقة الحيوان.. لكى يدخل منها المتفرجون.. واحدا بعد آخر.. ليسقط الشباب الصغير جرحا وموتا بالعشرات.. ولا أحد ينقذهم بل انهالت عليهم قنابل الغاز المسيل للدموع.. حتى خنقتهم قبل أن يسقطوا صرعا تحت الأقدام والأجساد المندفعة من الأبواب الضيقة والممرات الحديدية داخل الأقفاص التى زرعها الأمن.. لكى يمنع التزاحم لتحدث الكارثة.. ويتساقط الشباب فوق بعضهم.. داخل سحابة من الغازات المسيلة للدموع التى اطلق الأمن قنابلها.. لتفريقهم ومنعهم من الدخول عنوة.. ويسقط الجميع صرعى تدوسه الأقدام ليرتفع عدد الضحايا من الشباب الصغير إلى نحو 23 شابا ـ حسب بيان النائب العام + عشرات الجرحى الذين حملتهم عربات الإسعاف إلي المستشفيات القريبة من استاد الدفاع الجوى!

.........................

.........................

المشهد لم تسجله عدسات الكاميرات التى كانت كلها منصوبة فوق ـ أقصد فوق ممرات الموت من داخل ملعب الدفاع الجوى.. لنقل الهيصة والزمبليطة والكركعة والضحك والفرفشة والتعليقات المنعشة لمباراة كرة القدم التى كان يصول فيها ويجول لاعبو الزمالك وإنبى.. فى الوقت الذى كان جمهور الزمالك الذى أفلت من مصيدة الموت تحت المدرجات الراقصة ومعهم أعضاء الجهاز الفنى لنادى الزمالك ومعهم السادة أعضاء مجلس الإدارة ورئيس مجلس الإدارة يتابعون المباراة.. ولا على بالهم أو حتى يخطر ببالهم أن الموت نفسه يحصد أرواحا بريئة تحتهم عند المدرجات الراقصة المفرفشة المنعشة.. أرواحا انحشر أصحابها داخل ممرات الدخول.. آسف أقصد ممرات الموت.. التى امتلأت بدخان الغاز المسيل للدموع التى أطلقتها الشرطة فى محاولة منها لمنع تسللل المتفرجين الذين لا يحملون تذاكر للمباراة أصلا.. وحاولوا الدخول «بلوشى» يعنى من غير تذاكر ومن غير فلوس.. فكان الموت فى انتظار 23 منهم وربما أكثر قليلا وربما أقل قليلا..

يعنى مشهد ميلودرامى قبيح الوجه اسمه: الموت تحت المدرجات.. والضحك والفرفشة والنعنشة والهتاف والرقص والطبل فوقها.. موت وضحك وقتل وفرح فى مشهد واحد.. وفى لحظة عبثية واحدة.. حياة وضحك فوق.. وموت وقتل ودماء تحت.. واحزنى يا كل أمهات الأرض!

........................

........................

والسؤال الذى سمعته بأذنى من أكثر من إنسان ونحن جلوس معا على أحد الكافيهات التى انتشرت كما تنتشر النار فى الهشيم داخل كل أنحاء القاهرة.. وكل مدينة فى بر مصر كلها.. شماله وجنوبه.. شرقه وغربه.. والتى وجدت فيها المرأة والفتاة المصرية مخرجا من حبستها داخل جدران أربعة.. لترفع المرأة المصرية برقع الحياء والخفر ـ بفتح الخاء والفاء وسكون الراء ـ وراحت تتكلم وتحكى وتسهر وتدخن النارجيلة.. عجمى وحمى وتفاح ومعسل كمان ـ وتغنى مع أم كلثوم أغنيتها القديمة.. افرح يا قلبى لك حبيب تشتاق إليه ويشتاق إليك!

نعود للسؤال الحائر: من الذى تسبب فى مذبحة الشباب الصغير فى ملعب الدفاع الجوى؟ هل هو شباب الألتراس الأبيض ـ يعنى الزملكاوى ـ الذى أراد دخول المباراة «بلوشى» بدون تذاكر؟

أم هو التدافع داخل ممرات حديدية في قلب أقفاص حديديية أكبر لتقع الكارثة؟

أم هو الأمن الذى فتح رجاله بنادق الغاز المسيل للدموع عن آخرها.. خشية أن يفلت الزمام ويحدث ما لا تحمد عقباه.. فخنقت الشباب الصغير الذى تهاوت أجساده بعضها فوق بعض.. لتحدث الكارثة؟

أم أن هناك أيد تعبث فى الظلام ومن خلف الستار وتريد لمصر وشبابها السياسى كله.. شرا مستطيرا.. وما هؤلاء الشباب المندفع إلا أداة لتنفيذ الخطط الإجرامية لإظهار مصر وكأنها بلد الفوضى.. وفى بلدنا زائر كبير اسمه الرئيس بوتين.. ونحن على أبواب مؤتمر اقتصادى كبير.. هدفه إنقاذ مصر من أزمتها الاقتصادية + تدنى سمعة الجنيه المصرى + 8 ملايين شاب عاطل + مصانع مصرية خسرانة توقفت عن العمل + سياحة على الورق فقط.. لكن على أرض الواقع.. لا سياحة ولا يحزنون؟........................

.......................

وها نحن مرة أخرى نكرر ما حدث لشباب النادى الأهلى فى بورسعيد والذى راح ضحيته 74 من خيرة شباب جماهير الأهلى الصغير ماتوا كلهم داخل المدرجات وفى قلب الظلام.. ومازال القتلة ينتظرون الأحكام أمام محكمة النقض.. وإن غدا لناظره قريب..

يعنى مرة شباب الأهلى.. ومرة شباب الزمالك.. كما قال لى متفرج ذهب إلى استاد الدفاع الجوى.. فجاء وفى رأسه بطحة وعلى وجهه آثار دماء سالت ليلة المباراة.. ولكنه قال لى: الحمد لله اللى جت على قد كده.. لكن يا سيدى من المؤكد أن هناك أيد خفية تتربص بمصر وشعب مصر وتريد لهم الفرقة والتمزق والكراهية والجوع والضياع.. وربنا يستر عل البلد!

......................

......................

قالت لى مربية فاضلة تخرج على يديها جيل كامل من البنات الأولاد.. فهى تقوم بتدريس اللغات فى المدارس الثانوية:

ياسيدى.. كنا زمان ـ وليس هذا الزمان ببعيد ـ نذهب مع عائلات كثيرة إلى مباريات الكرة التى يتصارع فيها فريق مصر الكروى مع الفرق الأوروبية والإفريقية.. ولكن كانت مباراة الأهلى والزمالك هى بالذاتن التى كنا نحرص على رؤيتها من الملعب من داخل المدرجات.. وكان الجمهور يشجع.. جمهور الأهلى فى ناحية وجمهور الزمالك فى ناحية.. وكان أقصى ما يقوله ويهتف به الجمهور عندما لا يعجبه قرار الحكم هو: »شيلوا الرف.. شيلوا الرف«

ولم نسمع أبدا على ما يجرى الآن داخل الملاعب المصرية.. تصور الآن 74 من الشباب الصغير قتلوهم قتلا قبل ثلاثة أعوام فى بورسعيد فى مباراة الأهلى المصرى.. واليوم يضاف إليهم 23 شابا فى عمر الزهور من جماهير الزمالك هذه المرة.. يعنى مرة أهلى ومرة زمالك!

ياسيدي.. لقد أصبح الذهاب لمشاهدة مباراة فى كرة قدم رحلة من العذاب..

اكتب يا بنى وانت ذاهب إلى الملعب رسالة صغيرة إلى أمك التى تنتظرك فى الدار:

فى تقرير صدر عن الاتحاد الدولى لكرة القدم الذى اسمه الفيفا على لسان رئيسها بلاتر يقول: مصر الأولى عربيا والرابعة عالميا فى حوادث ضحايا ملاعب كرة القدم!

وكفاية غم وهم ودمع وقتل وندب.. وهو احنا ناقصين!

.............

...........

لا تبكى يا أمى ولا تذرفى الدموع.. إذا تأخرت هذه المرة فى العودة إلى أحضانك.. لكن تذكرى يا أمى كم أحبك{!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف