الأهرام
صلاح سالم
نهاية الحداثة.. أم إعادة اكتشافها؟!
منذ أعلن الفيلسوف الفرنسى جان فرانسوا ليوتار بيانه/ كتابه الشهير الظرف ما بعد الحداثي: تقرير عن المعرفة عام 1979، والفلسفة الفرنسية تواصل تأكيد ما ذهب إليه الرجل، اتساقا مع مزاجها الشكى العميق منذ ديكارت على الأقل، مرورا بالوجودية الملحدة التى عصفت به منتصف القرن العشرين، خصوصا لدى سارتر، وصولا إلى جاك دريدا، الذى أخذ يصوب جل أدوات النزعة التفكيكية إلى (الحداثة)، تلك السردية الكبرى المركبة فى بنيتها إلى درجة التعقيد، والتى فرضت نفسها على التاريخ الإنسانى برمته. إنه المزاج الذى يواجه لحظات عدم اليقين بالقطيعة الكاملة مع البنية القائمة، بدلا من محاولات نقدها فى إطار الاستمرارية معها. وهو مزاج يناقض نظيره الألماني، الذى لا يميل إلى القول بنهاية الحداثة، انطلاقا من موروثه النقدى الخاص، الذى يميل إلى إعادة طرح مسلماته للنقاش بقصد التعديل والتجاوز بديلا عن القطيعة، حتى فى تلك اللحظات التى يواجه فيها نوعا من عدم اليقين. فلا يزال يورجن هابرماس، مثلا، يكافح لأجل (حداثة جديدة) تُطهِّر الحداثة الكلاسيكية مما علق بها من شوائب وأصابها من تناقضات، عبر إدراك تواصلى لا يعدو أن يكون امتدادا طبيعيا للنزعة النقدية كما تجلت فى مدرسة فرانكفورت، وروادها الأوائل، والذين هم بدورهم نتاج متأخر للمشروع الكانطي، الذى يمثل الصيغة الأكثر شمولا وكلية لما تبدى دوما فى التاريخ الفلسفى وكأنه النموذج الأكثر نقدية لمفهوم العقلانية. قبل التعبير عن ميلنا إلى إحدى المدرستين نتوقف عند تمييز ضرورى بين مفهومين أساسيين: أولهما هو الكينونة، والذى يعكس بنية تاريخية مكتملة، ذات مرتكزات راسخة، أقله على ثلاثة أصعدة من بينها الفن الإنتاجى ومن ثم نمط التنظيم الإجتماعى الإقتصادي. وأيضا البناء القانونى والسياسى ومن ثم نظم الحكم عبر التاريخ. وكذلك النشاط الفكرى المصاحب لهذه النظم المتعاقبة، والقادر على تبريرها. أما ثانيهما فهو الصيرورة والذى يعكس تغيرا فى بعض عناصر تلك البنية، خصوصا الفوقية منها، كالنشاط الفكرى مثلا. وهنا يمكن تصور حدوث تحولات للكينونة القديمة تدفع بها فى اتجاه صيرورة متصاعدة، من دون ميلاد حتمى لكينونة جديدة.
وفى سياق هذا التمييز ندعى أن المدرسة الألمانية ربما كانت هى الأقرب إلى الموضوعية، إذ لم تنتج ما بعد الحداثة أبنية مجتمعية جديدة أو مذاهب سياسية مغايرة تقف بصلابة فى موازاة نظيرتها الحداثية، بل اكتفت، حتى الآن على الأقل، بالنحر فى القواعد المؤسسة لها. ولأن الفارق يبقى كبيرا بين عملية تاريخية يمكن وصفها بالسلب، تكتفى بنقد ما هو قائم، وبين عملية أخرى تتسم بالإيجاب، قادرة على تأسيس وضع تاريخى جديد، تظل ما بعد الحداثة قاصرة جوهريا عن وسم حركة التاريخ بميسمها الخاص، إذ لا تستطيع سردية ما الإعلان عن نفسها ما لم تضف مكونات جديدة (هيكلية) إلى السردية السابقة عليها. وهنا يمكن الإدعاء أن ما بعد الحداثة ليس إلا مرحلة جديدة (صيرورة) تعمل فى إطار الحداثة نفسها، ككينونة متصاعدة.

فى هذا السياق يمكن تفهم عمق الانتقادات التى توجه إلى الحداثة، والناجمة عن تشوهات عديدة حدثت لها طوال مسيرتها الطويلة، غير أن تلك الانتقادات التى تبرر حاجتنا التاريخية إلى كينونة جديدة تتجاوزها، لا تعنى ميلاد تلك الكينونة فعليا. وإذا كان ممكنا قبول مفهوم ما بعد التحديث كمفهوم واقعى يشى بمرحلة تلى تجربة التحديث، التى يمكن تجسيدها موضوعيا فى أفكار تنموية وأدوات تقنية يمكن ربطها مثلا بعصر الصناعة، فمن الصعب التسليم بمقولة ما بعد الحداثة بدافع أمرين أساسيين:

أولهما: أن الحداثة ذات طبيعة نسبية بالضرورة، إذ تنطوى جوهريا، ضمن مقوماتها الستة الأساسية، بجانب العقلانية والعلمانية والفردية والمادية والتاريخية، على نزعة نسبية، تعد نتاجا طبيعيا لارتباط الحداثة بالعلم الطبيعى ومنهجه التجريبي، ومن ثم روحه الشكية، النازعة إلى التقدم من خلال القابلية للتكذيب ومن ثم التجاوز، أى تكذيب العلم لنفسه، وتجاوزه لذاته، وهى القابلية التى بلغت من الرسوخ حدا صارت معه أحد تعريفات العلم الأثيرة التى راجت فى النصف الثانى من القرن العشرين، خصوصا لدى فيلسوف العلم الأشهر كارل بوبر، الذى رأى فى تلك القابلية طريقا لتطور المعرفة تاريخيا عبر التخطئة المتوالية لصورها السابقة. ولعل تلك القابلية للتخطئة فى العلم، هى التى تتجذر فى الحداثة وتمنحها قدرتها الدائمة على تجاوز نفسها.

وثانيهما: أن الحداثة ذات بنية جدلية بالضرورة، فهى كفلسفة جوهرية ليست هى كتجربة تاريخية. قطعا لا تعدو التجربة أن تكون نتاجا لهذه الفلسفة، ولكنها ليست مجرد انعكاس تلقائى وبسيط لها، بل بنية تراكمية لمراحل وعصور متوالية: النهضة، والإصلاح الديني، والمذهب الإنساني، والثورة الصناعية، والثورات الديمقراطية المتتالية، وهكذا نصبح أمام مسارات للتحديث لم تتبلور فى زمن واحد، بل فى أزمنة متباينة وعبر صراعات جدلية. فمثلا نجد أن لحظة الذروة فى الثورة الصناعية لم تكن هى لحظة ذروة على صعيد الحرية الفردية بل لحظة اغتراب إنسانى كبير على ذلك النحو الذى عبر عنه توماس إليوت فى (الأرض الخراب). كما فجر الإصلاح الديني، لنحو القرن، أحد أكثر النزعات البدائية عنفا وقسوة وهمجية لدى البشر، قبل أن ينتهى بصلح وستفاليا الذى وضع بذور الدولة القومية الحديثة، وأفضى إلى العلمانية السياسية. وهكذا تبدو الحداثة، بنسبيتها وجدليتها، تجربة واسعة وثرية، غير محدودة بسقف تاريخى نهائي، بل موسومة بالقدرة على تجاوز ذاتها، فإذا ما تحقق ذلك لم يكن تجاوزا خارجيا لها ككينونة شاملة، بل داخليا فقط لإحدى مراحلها. ومن ثم فكل تطور لها يمكن أن يُنسب إلى مفهومها الجوهري، فالحداثة ليست فقط القدرة على تجاوز الفكر التقليدى الذى كان قائما فى الجغرافيا الغربية قبل خمسة قرون مثلا، بل القدرة على التجاوز الدائم لكل فكر قائم، ما يعنى أن ما كان حديثا بالأمس يمكن أن يصير غير ذلك اليوم، وهكذا فى الغد، باسم الحداثة ذاتها، وبتأثير الديناميكية الكامنة فيها، فكل حدث منسوب إلى ما قبله، أى أنه أحدث فى زمان ما، أو قياسا إلى مكان ما وليس أحدث بالمطلق، أما الأحدث دائما وبالمطلق فهو مفهوم الحداثة ذاته، تعويلا على الملكتين الأساسيتين الكامنتين فيه: النسبية والجدلية معا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف