ليست القضية أن يبقي بشار الأسد أو أن يذهب، فتلك قضية الشعب السوري وحده، ولا تحسم بغير إجراء انتخابات رئاسية تعددية تحت إشراف دولي، لكن سوريا أهم من بشار ومعارضيه
عشرات ممن يسمون أنفسهم علماء الدين في دولة خليجية أصدروا بيانا يدعو لدعم «المجاهدين» ضد الغزو والاحتلال الروسي لسوريا، وهم يقصدون الغارات الروسية المكثفة لدك معاقل الإرهاب، والموصوفة عندهم بالهجوم «الصليبي الأرثوذكسي» الكافر طبعا (!)، بينما نزلت الغارات الأمريكية بردا وسلاما علي قلوب العلماء «الفالصو» وحكامهم المعتوهين، وكأن أمريكا المسيحية لم تعد صليبية هي الأخري، أو كأن «الصليبية البروتستانتية» الأمريكية والبريطانية أشد إيمانا، وأقرب للمسلمين من «الصليبية الأرثوذكسية»، أو كأن الأمريكيين تحولوا فجأة ـ ودون علمنا ـ إلي الإسلام، وأصبح الرئيس الأمريكي أوباما خليفة المسلمين.
وجهالات هؤلاء العلماء المدعين لا تبدو فريدة في بابها، وقد سمعنا مثلها وأكثر علي منابر الخليج ومنابر مصر، من مشايخ الإخوان والسلفيين، وقد استخدموها مباشرة في خدمة حملة تعبئة قادتها المخابرات الأمريكية قبل عقود، كان الموضوع وقتها هو الغزو السوفيتي لأفغانستان، وكان استخدام نعت «الشيوعية» كافيا لوصم الاتحاد السوفيتي وقتها، ودفع آلاف من الشباب المسلم للصلاة خلف سيد البيت الأبيض، والجهاد بصواريخ «ستينجر» الأمريكية ضد القوات السوفيتية الروسية، ثم كان ما كان، ولم تعد أفغانستان إلي شعبها أبدا، وحلت أمريكا محل الروس هناك، وزالت الشيوعية من الاتحاد السوفيتي نفسه، وحل محله الاتحاد الروسي بأيديولوجيا رأسمالية لا يعارضها أدعياء الإسلام، والذين سقم خيالهم، وأرادوا البحث عن تهمة جديدة لروسيا، ووجدوا في حكاية «الصليبية الأرثوذكسية» رنينا لفظيا مقاربا لجرس «الشيوعية»، وعلي ظن أن الأيام قد تعيد سيرتها، وأن جعل الحرب دينية يفيد في جلب الأنصار والتبرعات بمليارات الدولارات، ودفع أمريكا ـ الأم الرءوم للسلفيين والإخوان ـ لتسليح المجاهدين إياهم، وتحويل سوريا إلي أفغانستان جديدة محرقة للروس، وتناسي هؤلاء أن الدائرة لن تكتمل هذه المرة، وأن روسيا لا تخوض غزوا بريا في سوريا، وأنها تستخدم الطائرات كما تفعل أمريكا بالضبط، وأن الطائرات الروسية متطورة جدا هذه المرة، وتوجه ضرباتها من ارتفاع خمسة آلاف متر، وهو ما يستحيل معه إسقاط طائرة روسية بغير عطل فني، حتي لو اجتمع إنس «المجاهدين» مع جن «الأمريكان».
وبديهي أن روسيا تتدخل لحفظ مصالحها الدولية، وبعد أن أصبحت سوريا خلاء مفتوحا، وتماما كما يفعل الأمريكيون، وهذه خيبة عظمي تخدمها الفتاوي الضالة المضلة، والتي دمرت ثورة الشعب السوري السلمية ضد ديكتاتورية بشار الأسد، وأحلت محلها حربا طائفية كافرة، أهلكت الحرث والنسل، وحولت سوريا إلي غابة وحوش علي طريقة وحشية الأسد، وإلي حدائق ديناصورات يسمونها جماعات المجاهدين، وضمنهم مجموعات من شذاذ الآفاق القادمين من أربع جهات الدنيا، والمدفوعين عبر حدود تركيا، وبمعاونة مخابرات أردوغان، فضلا عن فصائل الشيعة المجلوبة بواسطة إيران، وبما جعل تحكم السوريين في مصير سوريا مستحيلا، وهكذا فقدت سوريا «سوريتها»، ثم فقدت «عروبيتها» بتخاذل العرب، ودفع بعضهم لعشرات المليارات من أجل تحطيم سوريا، وتسليم الخرائب لقوي إقليمية من نوع إيران وتركيا، ثم انتهت «الأقلمة» إلي «دولنة» المأساة السورية، وانتهت «الدولنة» إلي «روسنة»، وإلي تقدم اللاعب الروسي كضابط إيقاع وفاعل أول، وموزع للأدوار بحسب حقائق القوة الجديدة مع اتصال الغارات الروسية المكثفة.
وخطة روسيا غاية في الوضوح، ولا علاقة لها بأوهام «الصليبية» ولا «الأرثوذكسية»، فموسكو تريد دعم رجلها وحليفها بشار الأسد، والذي لم يعد يسيطر سوي علي خمس الأراضي السورية، تشمل المدن الكبري في دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس والسويداء وأغلب حلب، وهو ما يسميه أنصار الأسد «سوريا المفيدة»، وحيث تقيم الغالبية من السكان، وهو وضع لا يبدو مريحا، ولا عاصما من تدهور وانهيار كاد يلحق بالأسد، ويعطي حكم سوريا لجماعة «داعش» وأخواتها من جبهة النصرة والسلفيين والإخوان، وهو ما تريد روسيا تجنبه بغارات مكثفة متصلة، تزعزع أوضاع الآخرين، وتأخذ من الأراضي التي يحتلونها، وتضيفها لحساب جماعة الأسد بحسب مقدرتها علي استعادة الأرض، وبما يخلق له موقفا أفضل عند الذهاب للتفاوض، وفي يد روسيا حجة قوية جدا، فهي تشن غاراتها بطلب من حكومة دمشق المعترف بها دوليا، ولا فرق عند موسكو بين «داعش» والآخرين، فكلهم إرهابيون بامتياز، وهذا كلام صحيح جدا، فلم يعد من وجود علي الأرض لشئ كانوا يسمونه بالجيش السوري الحر، بينما «داعش» وحدها تسيطر علي قرابة نصف الأراضي السورية في الشرق وإلي الشمال، استعاد أكراد سوريا بعضها، وإن ظلت «داعش» أكبر المسيطرين، تأتي بعدها «جبهة النصرة» التي تسمي نفسها أحيانا بجيش الفتح، وهي من جماعات تنظيم القاعدة المصنف دوليا في خانة الإرهاب، وتسيطر علي قرابة خمس الأراضي السورية في الشمال والوسط والجنوب، وقس علي ذلك جماعات أخري تسيطر علي العشرة بالمئة الباقية، أهمها جماعة «الجبهة الجنوبية» و»أحرار الشام» و»جيش الإسلام» في درعا وغوطة دمشق وما حولها، وهي جماعات ولاء مختلط للقاعدة والإخوان والسلفيين، ومدعومة مباشرة من المخابرات الأمريكية، وتريد أن تستقوي بجبهة النصرة عبر معونة المليارات القطرية، وبهدف افتعال كيان مسلح لما يسمونه بالمعارضة المعتدلة، والتي يقيم قادتها في الفنادق التركية الفاخرة تحت اسم «الائتلاف الوطني السوري»، ترعاهم واشنطن «البروتستانتية» وباريس «الكاثوليكية»، وينعتهم العلماء الوهابيون المأفونون بالمجاهدين (!).
وليست القضية أن يبقي بشار الأسد أو أن يذهب، فتلك قضية الشعب السوري وحده، ولا تحسم بغير إجراء انتخابات رئاسية تعددية تحت إشراف دولي، لكن سوريا أهم من بشار ومعارضيه، واستعادة سوريا لها الأولوية علي نظام الحكم، فلم نعد في ترف السؤال عن اسم الذي يحكم، بل في محنة السؤال عن مصير سوريا نفسها، عن مصير الجيش والدولة السورية، وتغييب الجيش والدولة يعني فناء سوريا، وتركها أطلالا وزواريب، تنعق فيها البوم والغربان وقطعان «المجاهدين» في سبيل أمريكا (!).