أنا مع المثقفين المصريين الذين كتبوا يودعون الكاتب المسرحي الراحل علي سالم، ويدافعون عن حقه في التعبير عن آرائه واختيار مواقفه، وينددون
بالمعاملة السيئة التي تعرض لها حين عبر عن اقتناعه بضرورة تطبيع العلاقات مع الاسرائيليين، وقام بزيارة إسرائيل قبل عشر سنوات، وأعلن أننا بعد توقيع معاهدة كامب دافيد واتفاقية أوسلو لم نعد في حالة حرب معها، وأن الاسرائيليين التزموا بما وقعوا عليه في كامب دافيد ورحلوا عن كل الأراضي المصرية التي احتلوها، وأن علينا أن نحول معاهدة السلام التي وقعناها بعد أن انتصرنا في حرب أكتوبر الي علاقات طبيعية نستفيد منها كما تستفيد منها إسرائيل، وإلا فسوف يعتبرنا العالم غير جادين لأننا نظهر الرغبة في السلام ونضمر السعي لاستئناف الحرب التي لم تعد نزاعا محدودا، وإنما هي خطر شامل يهدد المنطقة ويهدد العالم.
وقد رأي علي سالم أن هذه الرغبة في إقامة علاقات طبيعية دفعت مثقفين إسرائيليين لزيارة مصر كما فعل الكاتب الصحفي وعضو الكنيسيت يوري أفنيري، وكما فعل آخرون زاروا كتابا مصريين في مقدمتهم نجيب محفوظ الذي لم يتحرج من زيارتهم له. كما أن عددا من الصحفيين والكتاب المصريين زاروا اسرائيل والتقوا باسرائيليين في بعض العواصم الاوروبية وناقشوا معهم موقفهم من السلام ومن حق الفلسطينيين في دولة مستقلة تجمع شملهم وتعوضهم ولو جزئيا عما فقدوه، إلي آخر هذه الحقائق وهذه الاعتبارات التي بني عليها علي سالم قراره الذي اتخذه، وهو أن يزور اسرائيل ليثبت للاسرائيليين أن المصريين راغبون حقا في السلام، وليشجع المصريين الذين عاش معظمهم حياته في ظل الحرب واعتبروها حربا دائمة طالما بقيت اسرائيل دولة قائمة، لأن قيامها عدوان وبقاءها عدوان دائم، ومن هنا أصبحت المقاطعة سلوكا بديهيا مبنيا علي مسلمات اعتقد علي سالم أنها لم تعد صحيحة، وأنها تكلف المصريين الكثير فعليه أن يدعوهم لإعادة النظر فيها، ليس فقط بمقالة يمكن أن تكون موضوعا لمناقشة يتبين فيها وجه الحق، ولكن بزيارة يقوم بها ويشجع غيره، علي القيام بمثلها. وقد قام علي سالم بهذه الزيارة قبل أحد عشر عاما فعومل من المصريين وخاصة من المثقفين بعنف أستطيع أن أفهم أسبابه، كما أفهم الأسباب التي تفرض علينا أن نراجع هذا الموقف العنيف.
علي سالم كاتب مسرحي موهوب يتمكن من صناعته استطاع أن يضع اسمه الي جانب الكبار ويواصل حضوره معهم، ويختص بمسرح يخلط فيه الضحك بالبكاء ويمزج بين ما قرأه وما يعيشه. هذا الرجل أصبح بعد زيارته لاسرائيل منبوذا مفقودا. لم يفصل من اتحاد الكتاب وحده، بل فصل من الحياة الثقافية كلها. فهو لايشارك في ندوة، ولا يرشح لجائزة ، ولايذكر اسمه في الأعمال التي شارك فيها. وهذا عنف لم يقع علي علي سالم وحده، بل وقع عليه وعلينا. لأننا خسرنا به مشاركة علي سالم طوال الأعوام العشرة الماضية التي ازداد فيها معرفة وخبرة.
لماذا أرفض مقاطعة علي سالم؟ ولماذا اعتبر هذه المقاطعة عنفا لا حق لنا فيه ولا حاجة لنا به؟
لأني أومن بحق علي سالم في أن يكون له رأيه الخاص الحر وموقفه المستقل من الصراع العربي الاسرائيلي ومن أي قضية أخري طالما استطاع أن يشرحه وأن يثبت لنا أنه لم يقصد مصلحة شخصية.
وفي اعتقادي أن علي سالم قام بزيارته لاسرائيل وهو يعلم علم اليقين أن ردود الفعل لن تكون ايجابية. ومع هذا دخل المغامرة وتحمل نتائجها التي كانت قاسية عليه من كل جانب. من جانب المصريين والعرب الذين أدانوا الزيارة وقاطعوا صاحبها. ومن جانب الاسرائيليين الذين رأي علي سالم أن زيارته لم تجعلهم أكثر استعدادا للوصول الي سلام عادل مع العرب، وإنما رأي كما رأينا أنهم أصبحوا أكثر تطرفا وعدوانية وجاهلا لحقوق الفلسطينيين. وهم في هذا لا يفاجئوننا، بل يواصلون معنا سيرتهم التي نعرفها عنهم منذ وطئت أقدامهم أرض فلسطين. ولهذا استنكرت زيارة علي سالم وقتها، ولا أزال استنكرها، دون أن أقاطع علي سالم، او أتهم نواياه، او أنكر عليه حقه في أن يري وأن يختار.
لقد وقفت مع الذين وقفوا ضد الرئيس الأسبق أنور السادات حين زار اسرائيل ووقع معاهدة كامب دافيد. لكني بعد أن خرجت من تأثير الصدمة وبعد أن دفع هو الثمن غاليا أعطيته الحق. والفرق كبير بين زيارة السادات وزيارة علي سالم.
السادات رجل سياسة. هو مطالب طبعا بأن تكون منطلقاته أخلاقية. لكنه حين يترجم هذه المنطلقات الي اجراءات عملية لايستطيع إلا أن يأخذ شروط الواقع بعين الاعتبار. هكذا فصل السادات بين اسرائيل الكيان الاستيطاني العدواني بطبيعته واسرائيل الدولة التي تحتل سيناء بدعوي أنها تدافع عن نفسها.
اسرائيل هذه الأخيرة هي التي يتعامل معها رجل السياسة ويفرض عليها بالحرب او بالتفاوض أن تسحب قواتها من بلاده. أما اسرائيل الأولي فأمرها متروك لما يجد في المستقبل. من هنا دخل السادات الحرب وحقق فيها انتصارا مشرفا أعاد لنا ثقتنا في أنفسنا، وشكك الاسرائيليين في قدراتهم، وأقنعهم بأن يجلسوا معه علي مائدة المفاوضات وأن يستجيبوا لمطالبنا وأولها أن يهدموا مستعمرتهم التي أقاموها في سيناء، ويرحلوا عن آخر شبر في أراضينا التي احتلوها.
وقد كان بوسع السادات أن يواصل الحرب بعد هدنة تطول او تقصر. لكن هذا كان سيكلفه ويكلفنا الكثير . وقد أجري حساباته وأمعن النظر فوجد الربح مؤكداً بالزيارة التي قام بها، بينما تظل نتائج الحرب لواستؤنفت في علم الغيب. لهذا زار إسرائيل وقال للعالم لقد خضنا الحرب لنحرر أراضينا وانتصرنا. لكننا نؤثر السلام إذا استجابت إسرائيل لمطالبنا وسحبت قواتها من أراضينا. وقد صحت حسابات السادات فوقعت إسرائيل المعاهدة وسحبت قواتها، فمن حقه علينا أن نعترف له بالذكاء والشجاعة في مواجهة أعدائه الكثيرين الذين تعاملوا معه بجبن ونذالة.
والأمر ليس كذلك بالنسبة لزيارة علي سالم.
علي سالم مثقف. والمثقف حارس للقيم يرعاها في منطلقاته وفي تصرفاته، لأنه يحاسب علي الأساس المبدئي الذي بني عليه مواقفه، وليس علي النتائج العملية لهذا الموقف.
ونحن نعرف أن إسرائيل كيان استعماري زرعه البريطانيون في منطقتنا واستخدموا في زراعته كل مااستطاعوا أن يستخدموه لينتزعوا من الفلسطينيين وطنهم ويحولوهم الي لاجئين، ويثيروا النزعات الطائفية في البلاد العربية ويدخلوها مع هذا الكيان العدواني في حرب دائمة تنهكها وتمنعها من أن تنهض وتتقدم. وهذا ماذقنا منه نحن المصريين الأمرين، ودفعنا ثمنه غاليا جداً في أربع حروب متوالية، خسرنا فيها الكثير مما حققناه في الماضي ومما كنا سنحققه. صحيح أننا وقعنا مع اسرائيل معاهدة سلام لكننا وقعنا هذه المعاهدة مع إسرائيل الثانية، مع إسرائيل الدولة التي أصبحت عضواً في الأمم المتحدة واعترف بها العالم وكانت لنا معها هذه الجولات التي انتهت بكامب دافيد. أما إسرائيل الكيان الاستيطاني فنحن لم نوقع معه أي شيء ولم نتعهد بالاعتراف به أو بتغيير موقفنا منه.
وأنا هنا أتحدث عن إسرائيل ولا أعمم. فأنا أعرف أن إسرائيل ليست شعباً واحداً ولا ثقافة واحدة. وإنما إسرائيل مستوطنة جمعت الشرق والغرب والشمال والجنوب. وأنا أعرف أن إسرائيل فيها من يشهدون بالحق ويبحثون عن حل يحصل فيه كل طرف علي حقه. فهؤلاء نستطيع أن نتحاور معهم دون أن نزور إسرائيل.