كان كفار قريش في صدر الإسلام يعذبون من يعلن إسلامه عذاباً شديداً، وممن عذبتهم قريش عمار بن ياسر ووالده وأمه سمية. وقد ماتت الأم تحت وطأة التعذيب وصارت أول شهيدة في الإسلام، ومات الأب أيضاً. ولم يبق سوي عمار، وخيره الكفار : إما أن تسب محمداً وتذكر آلهتنا بالخير وإما أن نلحقك بأبيك وأمك. واختار عمار أن يفعل ما طلبوه منه لينقذ حياته، لكن ضميره عذبه، فذهب إلي النبي صلي الله عليه وسلم وروي له ما حدث، فسأله : كيف تجد قلبك؟ قال : أجد قلبي مطمئناً بالإيمان. قال صلي الله عليه وسلم : فإن عادوا فعُد. وأنزل سبحانه وتعالي في ذلك قرآناً» مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ.. إلي آخر الآية «
من هنا بدأت في التاريخ الإسلامي فكرة التقية، ومعناها أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن خوفاً علي حياته. وقد ورد هذا المعني مرة ثانية في سورة آل عمران، في قوله تعالي : « لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً* وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ* وَإِلَي اللَّهِ الْمَصِيرُ ».
لكن من المؤكد أن تصرف عمار بن ياسر لم يكن هو القاعدة العامة للسلوك في مواجهة قريش، فالكثيرون تحملوا العذاب بثبات ولم يخشوا الموت، إذ أن فروسية العرب أبت علي كثير منهم أن ينزلوا علي حكم التقية وفضلوا أن يعرضوا أنفسهم للمكروه، لأنهم اعتبروا إخفاء ما في نفوسهم نفاقاً يأباه الطبع العربي والكرامة الإنسانية. بل إن غير العرب أيضاً تحملوا العذاب بصبر ولم يبالوا، وبلال مثل واضح علي ذلك.
وقد تبني الشيعة فكرة التقية، واعتبرها بعضهم أصلاً من أصول العقيدة الشيعية، وتوسعوا فيها بحيث لم تعد مقصورة علي ما يهدد الحياة، بل صارت مبرراً للكذب في الحياة اليومية. وفي الفترة الأخيرة تأثر بعض أهل السنة بهذه الفكرة، وخاصة أنصار الإسلام السياسي، فبعد كل موجة عنف يقومون بها يلجأون للتقية حفاظاً علي كيانهم. وربما اتخذوها وسيلة للمسكنة حتي يتمكنوا.
وفي الفترة الحالية يقدم السلفيون المصريون نموذجاً حياً للتقية. نحن نعرف مثلاً رأيهم في المسيحيين، فهو معلن في مطبوعاتهم وحوارات أقطابهم للصحف ووسائل الإعلام. وخلاصة رأيهم أن المسيحيين كفرة، ولا ولاية لكافر، ولا يجوز تهنئتهم بأعيادهم. ورغم هذا فقد فتحوا لهم أبواب العضوية في حزب النور. كيف يمكننا حل هذا اللغز ؟ الحل ببساطة هو أن ما يفعلونه ليس غير التقية. وقد فعلوه لا عن إيمان بل مجاراة للتيار السياسي الجامح ضد الإسلام السياسي، بحيث يبدو موقفهم غير متعارض مع نظام الحكم القائم، فلا يستبعدون من الحياة السياسية.
ومما يؤكد أنهم يمارسون التقية: موقفهم من المرأة. إنهم كما نعرف يرون أن المرأة عورة، وأن مكانها الطبيعي هو البيت، ويرفضون أن ترفع نقابها أو تكشف وجهها، رغم أن الفقهاء أفتوا بأنه يجوز للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها، وأن الأزهر أعلن أن النقاب عادة وليس عبادة، وهم يخوضون الآن معركة حامية ضد رئيس جامعة القاهرة لأنه اتخذ قراراً بمنع النقاب للسيدات العاملات بهيئة التدريس. يري السلفيون أيضاً أن صوت المرأة عورة، ولا يجوز نشر صورتها، ويستبدلونها في الدعاية الانتخابية بوردة. ورغم هذا الموقف المعروف من المرأة فإن السلفيين يرشحون النساء علي قوائمهم. فهل لهذا اسم آخر غير التقية.
ومن أمثلة التقية في سلوك السلفيين: مشاركتهم في العملية السياسية الحالية، ونزولهم الانتخابات البرلمانية، رغم أن الخلافة هي هدفهم. وأنهم يؤمنون أن البرلمان ليس صاحب الحق في التشريع. لكننا نستطيع أن نفهم التناقض الواضح في سلوكهم حين نعرف معني التقية، لذلك أقول: حذار أن تخدعنا مواقفهم الحالية عن حقيقتهم.