التحرير
فريدة الشوباشى
استعادة نبوءة
كان الرئيس الفرنسى الراحل فرانسوا ميتران ضيفًا فى أحد أنجح البرامج التليفزيونية، وتقدِّمه واحدة من ألمع الإعلاميين فى فرنسا، إبان انهيار سور برلين، الذى كان يقسم المدينة الألمانية إلى شطرَين، أحدهما سُمّى برلين الغربية، والآخر برلين الشرقية.

كانت مقدمة البرنامج تكاد تطير فرحًا وهى تشهد هدم السور، معتبرة ذلك هزيمة ساحقة للمعسكر الشرقى، أى الاتحاد السوفييتى، وانتصارًا لا ريب فيه للمعسكر الغربى بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.

وهنا، طالبها الرئيس الفرنسى بلهجة حكيمة تشى بخبرات سنوات طوال، قادته إلى سُدّة الرئاسة، بالتريّث والهدوء والتروّى، وهو يقول: هدّئى قليلًا من انفعالك الزائد يا آن سان كلير، وهو اسم المذيعة، فلقد انهارت الشيوعية، وكان لا بد لها أن تنهار، حيث تحمل فى ثناياها بذور انهيارها، أى انعدام الحرية، ولكن لا تظنِّى أن الرأسمالية المتوحشة لن تنهار، بل إن انهيارها حتمى، لأنها تحمل فى ثناياها بذور انهيارها، وأعنى انعدام العدالة.

وفى يوم من الأيام سوف يتوصَّل الإنسان إلى صيغة آدمية تحقِّق العدالة الاجتماعية، وفى نفس الوقت تضمن الحرية..! قفزت هذه الكلمات إلى ذهنى فى أثناء زيارة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين لمصر، ودرجة التفاهم والالتقاء العالية التى تبدَّت خلالها نتيجة مباحثاته مع الرئيس عبد الفتاح السيسى.

فى اعتقادى أن هذه الزيارة تحفر سطرًا فارقًا فى التاريخ، من حيث التوقيت، ولكن الأهم، من حيث مكانة طرفيها.. وقد اتضح أن بوتين قرأ ثورة الشعب المصرى قراءة صحيحة، والتقط نقاط الالتقاء بين دولة عظمى هى روسيا، ودولة عظمى فى محيطها هى مصر، ولا أبالغ إذا ما قلت إن خطأ واشنطن الفادح، والذى شاركها فيه مَن تعاقبوا على حكم مصر، بعد غياب جمال عبد الناصر، أنهم توهَّموا إمكانية تقزيم المحروسة، وكأنهم أرادوا إلباس العملاق ، برباتوز، أى زى طفل صغير، وهو ما يتنافى مع الواقع ويجافى المنطق.

إنه المستحيل بعينه كما أعلنها عاليًا شعب مصر، ولم تصل إلى أسماع مَن أصابهم صمم، بينما استرق السمع وأنصت بوتين بوعى ويقظة وفطنة، إلى الوجدان المصرى الطامح إلى الانعتاق من القفص الأمريكى الخانق.. وأتوقف عند خطوة فى غاية الأهمية تمت خلال هذه الزيارة، وهى اتفاق القاهرة وموسكو على أن تكون التبادلات التجارية وغيرها، بالعملتين المحليتين، أى الجنيه المصرى والروبل الروسى.. وتأتى هذه الخطوة بعد خطوة مماثلة فى التعامل مع الصين، التى يُقارب تعداد سكانها، ربع سكان الكرة الأرضية، وهو ما لم تسمح الغطرسة الأمريكية بقراءته القراءة الصحيحة، التى تزحزح شيئًا فشيئًا الدولار عن عرشه، وأن يعيد دولة الرأسمالية المتوحشة، كما قال ميتران، إلى جادة الصواب.. إن التعامل بالعملات المحلية يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح ويؤذن بأفول الإمبراطورية، التى سَقَت العالم، خصوصًا منطقتنا، مرّ الكأس.. والأكيد أننا سنحتفل، بإذن الله، بمصر، قدّ الدنيا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف