الأهرام
جابر عصفور
السلفيون ووزير الثقافة
لم تمض أيام قليلة علي تولي حلمي النمنم منصب وزير الثقافة, حتي انهال عليه هجوم السلفيين بعامة وتيارات الإسلام السياسي بخاصة, ولماذا؟ لأن وزير الثقافة أعلن في حديث له أن مصر دولة علمانية. ولم يكن يقصد بذلك سوي أن مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة, وأنها ليست دولة دينية ولا دولة عسكرية. وأغلب الظن أن الرجل حين وصف الدولة المصرية بالعلمانية, كان يعني الدلالة التي يفهمها كل من يعرف اللغة العربية من أن الأصل الدلالي لكلمة العلمانية يرجع إلي الكلمة زعلمس بفتح العين وسكون اللام, وهي تعني الدنيا في لغة العرب, وتصاغ منها الصفة زعلمانيس مثل كلمة زعقلس وعقلاني. ولا تعني الكلمة في إيحاءاتها أكثر مما أمرنا به ديننا الإسلامي عندما قال لنا: زأنتم أعلم بشئون دنياكمس. وهو أمر يعني أن المسلمين أحرار في اختيار النظام الذي يسوسون به حياتهم في الدنيا, أما حياتهم في الآخرة فتحددها نتيجة أعمالهم في الدنيا ونواياهم التي لا يعرفها إلا الله. ولكن مشايخ السلفية ذ ككل زعماء الإسلام السياسي- لا يرون ذلك, وهم الذين أشاعوا أن العلمانية كفر وأن الدولة العلمانية دولة إلحاد. وهم عاشوا طويلا علي هذا الوهم الذي صنعوه لأنفسهم, وأشاعوه بين المسلمين البسطاء. والحق أنه لا تناقض قط بين الإسلام والعلمانية, لو فهمنا العلمانية بمعني الدنيوية, وأن الدولة المدنية هي الدولة الحديثة القائمة علي المواطنة والديمقراطية, والحرية بكل معانيها السياسية والفكرية والاجتماعية. ولهذا تنص المادة الأولي من الدستور المصري علي أن جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة, وهي موحدة لا تقبل التجزئة, ولا يتنازل عن شيء منها, ونظامها جمهوري ديموقراطي, يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون. وما يعنيه هذا النص لكل من يفهم العربية أن هوية الدولة المصرية ليست هوية دينية ولا عسكرية, وإلا كان نص الدستور أن مصر دولة إسلامية أو مسيحية أو عسكرية, فالمادة الأولي من الدستور رغم ما فعل بها السلفيون وممثل الأزهر, حددت هوية مصر بأنها دولة مدنية نظامها جمهوري ديمقراطي, يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون.
ومعني ذلك لمن يفهم اللغة العربية وليس في قلبه مرض أو غرض تشويه المعني أن مصر دولة مدنية, نظامها جمهوري ديمقراطي, يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون. وهو كلام واضح وكاف في تحديد الهوية المدنية( لا الدينية) للدولة. ولا معني لأن تنبني الدولة المصرية علي أساس المواطنة وسيادة القانون إلا أنها دولة مدنية أو علمانية. ومعني ذلك أيضا أن هوية الدولة المصرية ليست هوية دينية أو عسكرية. ولكن طوائف الإسلام السياسي لا تقبل بهذا, وتمضي في التدليس علي البسطاء من المسلمين بتناسي المادة الأولي من الدستور, وهي المادة الحاكمة التي تمثل أصل الدستور وأساسه, وتخايلنا بالمادة الثالثة من الدستور التي تقول إن الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, وهي فرع مادة وليست أصلا, فالأصل هو الدولة المدنية ذات النظام الجمهوري الديمقراطي الذي يقوم علي أساس المواطنة وسيادة القانون. وسيادة القانون هي سيادة الدستور من حيث هما عقد اجتماعي سياسي يصوغه البشر للوصول بحياتهم في الدنيا إلي ما يحقق سعادتهم, وفي ظل إيمانهم بمبادئ الدين التي هي قيم كلية تعني السلام بين البشر والمحبة والعدل والمساواة والتعاون والتكافل.. إلخ.
هذا ما فهمه وزير الثقافة عندما أقسم علي أن يحافظ علي مصالح الوطن وأن يحترم الدستور والقانون. وهو قسم ذ لو تعلمون- عظيم يفرض علي صاحبه أن يكون علي بينة مما يقول, كما يعني أن انتماءه وولاءه لكل أبناء الوطن المصري علي أساس من الدستور والقانون. والولاء لكل أبناء الوطن المصري يعني عدم التمييز بين مسلم ومسيحي, والعمل بشعار ثورة1919 ز الدين لله والوطن للجميع ز ولذلك فولاء وزير الثقافة لوطنه مثل ولائه للدستور هو ترتيب لأولويات الوطن أولا, وما بعد ذلك يأتي المذهب الديني أو السياسي الذي لا ينبغي للوزير أن ينحاز فيه, وإلا ما استحق أن يكون وزيرا. إن أولي واجباته- بوصفه وزيرا للثقافة- هي أن ينشر ثقافة الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية واستقلال الوطن. وأدواته في ذلك هي الأجهزة الثقافية التابعة له, والمنظومة التي شارك في تجسيدها. ويفقد هذا الوزير الحق في منصبه لو تصور أنه منحاز لهذا الفريق السياسي أو الحزب الديني.
هذا هو سبب هجوم زعماء السلفية علي وزير الثقافة لأنه أعلن انحيازه للدستور والقانون, وأنه لا يؤمن بالتمييز بين مواطنين مسلمين أو مسيحيين, وأنه أقسم علي صيانة الدستور والقانون اللذين يؤكدان مدنية الدولة أو علمانيتها في الدلالة اللغوية.
ومن المضحكات المبكيات أن يذهب نائب رئيس الدعوة السلفية- هكذا- إلي أن النمنم خالف شرع الله وتجب عليه التوبة( الوطن2015/10/5) ويمضي قائلا: زوزير الثقافة خالف القرآن والدستورس. ويضيف قيادي سلفي آخر أن وزير الثقافة وضع هوية الدولة تحت حذائه. ويا لهول التدليس والكذب علي الناس, ويا خيبة الإسلام فيمن يقول ذلك باسمه. ولن أقول بأي حق يتحدث هؤلاء باسم الإسلام دون غيرهم. أليس هناك شيخ للأزهر منوط به الحديث باسم الإسلام؟!. ولو تركنا الانفعال إلي بشاعة الاتهام لرددنا اتهام مشايخ السلفية إلي نحورهم لأنهم هم الذين خالفوا القرآن والدستور. أولا لأن القرآن أمرنا بأن نجادل بالتي هي أحسن, والإسلام يمنعنا من استخدام لغة التكفير التي لجأ إليها نائب رئيس الدعوة السلفية. أما هوية الدولة المصرية التي يتهم حلمي النمنم بأنه وضعها تحت حذائه, فالعكس هو الصحيح. هوية الدولة المصرية يا من أعماكم التعصب ليست زإسلاميةس أو زمسيحيةس وإنما هوية وطنية قائمة علي احترام الدستور والقانون الوضعيين وعلي الإيمان بأن الدين لله والوطن للجميع. إن الوطنية هي هويتنا الحقيقية, ورفعة الوطن واستعادة هيبته هي هدفنا جميعا مسلمين ومسيحيين أو حتي يهود, فاتقوا الله في وطنكم, وعودوا إلي إسلامكم السمح, ولا تحاجونا بالسلفية الوهابية وإنما بأهل السنة الذين تابعهم الشيخ عبد المتعال الصعيدي في كتابه زحرية الفكر في الإسلامس بإحسان. وكفوا عن لغة التكفير وتوهم أنكم وحدكم الفرقة الناجية, فلا نجاة لأحد إلا بإذن الله الأعلي والأجل من بعض خلقه الذين أطلقوا علي أنفسهم السلفيين وهم أبعد ما يكونون عن خلق السلف الصالح. وسلام علي من اتبع الهدي وجادل بالتي هي أحسن. أما حلمي النمنم فعليه احتمال المواجهة, ما دام الله امتحنه بمنصب الوزارة التي هي ابتلاء حقيقي. وعليه أن يدرك أن كل مثقفي مصر الشرفاء معه, ما ظل علي الحق, ماضيا في الطريق الصاعد الصعب للدولة المصرية الوطنية والديمقراطية, بل المدنية والعلمانية معا, حتي ولو كره ذلك فصيل من فصائل المصريين الذين أعماهم التعصب الديني عن رؤية الحق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف