الوطن
د. محمود خليل
«الأترنة».. و«العقلنة»
فى ظل مناخ يحتفى بالخرافات، وخطاب إعلامى يريد أن يؤكد للجمهور باستمرار أن «دنيا الله» بأسرها تستهدفنا، وأن البشر قسمان: ملائكة وشياطين، الملائكة هم من يدعموننا، فنرضى عنهم، والشياطين هم من يعادوننا، فلا بد أن نحتقرهم ونحقرهم. فى ظل هكذا مناخ، وكذلك خطاب وذلك التصور للبشر، من الطبيعى جداً أن تصبح ألعاب «الأتارى» مقاطع يستشهد بها فى البرامج التليفزيونية التعبوية، وأن يتحول مقدمو البرامج إلى أصوات معلقة على عبقرية هذا الطرف أو ذاك فى استخدام السلاح، وفشل غيره فى ذلك، تماماً مثلما استدعى الإعلامى «أحمد موسى» مقطع فيديو من لعبة، وصوّر للمشاهد أنها مقاطع حقيقية من الحرب التى تقوم بها روسيا ضد «داعش»، وأخذ يمتدح الروس على جديتهم فى التعامل مع التنظيم، فى حين يتعامل غيرهم بنظام الطبطبة مع هذا العدو!.

الخطأ وارد بالطبع، وليس من المروءة أن نجلد من أخطأ إن لم يكن متعمداً الخطأ، إعلاميون آخرون وقعوا فى هذا المحظور، وإن كان بطريقة أخرى. لعلك تذكر ذلك الإعلامى الآخر صاحب مصطلح «المجلس الأعلى للعالم»، حين استضاف فى برنامجه التليفزيونى أحد اللواءات المتقاعدين، وأخذ أخونا يتحدث عن حروب الجيل الخامس، وكان من الواضح جداً أنه استعان فى كلامه بمعلومات عديدة تتشابه مع تلك التى نشاهدها فى «ألعاب الأتارى»، كما ذكرت فإن الخطأ وارد، لكن موضوع السياق الذى يؤدى إلى الوقوع فى مثل هذه المطبات الكوميدية يستحق التناول، لأن تواصله على هذا النحو يؤدى ببساطة إلى حالة من حالات تغييب الوعى، حين يستغرق الإعلاميون فى نشر الترهات والخرافات، ظناً منهم أنهم يخدمون بذلك السلطة، فى وقت ربما لا تكون السلطة قد طلبت منهم أى خدمة على وجه الإطلاق. وتغييب الوعى بهذه الصورة أمر لن يصب فى خدمة هذا المجتمع، بل سيحول الجميع إلى ظاهرة صوتية، يتعاطون مع الحياة وأحداث الحياة بالشعارات البراقة، والألفاظ الرنانة الطنانة، ويصبح عقلهم، وبالتالى أداؤهم فارغاً من المضمون.

لقد عشنا مثل هذه الأجواء خلال فترة الستينات. كان الراديو يثرثر ليل نهار بالغناء، وتصدح أصوات المذيعين بخطاب لا يقل كوميدية عن إعلام «الأتارى» الحالى، يكفى جداً لكى ترصد حالة التقاطع بين النوعين من الثرثرة أن تتابع لبعض الوقت مقدمات أغانى «أم كلثوم» على إذاعة الأغانى خلال فترة السهرة، إذا فعلت واستمعت ستستغرب، وتسأل: هل الذى يتحدث هو «أحمد سعيد» أم «أحمد موسى». وكلنا يعلم النتيجة التى ترتبت على هذه المقدمات! نحن لا نقول إن الزمن وأحداثه تعيد إنتاج نفسها، لكن الأفكار وطرق الأداء قد تتشابه، والخطاب الإعلامى الذى يصر على نشر الخرافات، ويصور للمتلقى الواقع على غير حقيقته، لا يقل سفاهة عن الخطاب الدينى الذى ينشر التعصب والتطرف، على غير حقيقة الإسلام، كدين يدعو إلى التسامح والمحبة وإعمار الأرض. ويبدو أن مسألة العقلنة يجب ألا تنصرف فقط إلى الخطاب الدينى، بل لا بد أن تمتد إلى الخطاب الإعلامى أيضاً، على أن يكون أصل العقلنة هنا هو السعى إلى الخروج به من حالة «الأترنة» -مشتقة من الأتارى- التى تسيطر عليه حالياً!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف