كانت الهجرة النبوية بأمر الله تعالى، ولم تكن هروبًا من قتالٍ ولا تخاذلاً، بل كانت هجرة أعد فيها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم العدة وهيأ فيها الجند الكرام حتى عاد بهم إلى مكة فاتحًا لها بعد ثمانية أعوام
وقد أوذي الرسول الكريم وأصحابه الكرام في مكة رضي الله عنهم، وكان يمر بهم وهم يعذبون فيقول مصبرًا آل ياسر (ياسر وعمار وسمية): "صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة"، واستشهدت سمية قتلها أبو جهل؛ إذ ضربها بحربة فماتت، وأوذي ياسر حتى مات شهيدًا، وصبر عمار على الأذى حتى استشهد بعد أن نيف على التسعين، وقال فيه رسول الله: "ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية".
جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله فلم يكن يخفي شيئًا منها، بل كان يدور في المواسم التي يجتمع فيها الناس ويقول لهم: "أيهـا النـاس قولـوا لا إلـه إلا الله تفلحوا" وقد صبر على إيذاء المشركين من أهل مكة، حيث وضعوا سلا الجذور على ظهره وهو راكع عند الكعبة وكانوا يحثون عليه التراب، ومزق عتيبة بن أبي لهب ثيابه وبصق على وجهه الكريم فدعا عليه رسول الله قائلا: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك يأكله"، وسافر عتيبة في رحلة التجارة بالشام وبينما هو نائم وسط القوم؛ إذ طاف بهم الأسد فراح عتيبة يصرخ قائلا أصابتني دعوة محمد، قتلني وهو بمكة وأنا بالشام فأكله الأسد انتقامًا لرسول الله.
وازداد العذاب على المستضعفين ما بين جلد وضرب وحبس وتحريق وقتل، ولكن أدركهم المدد الرباني والتثبيت الإلـهي؛ فصبروا لله رب العالمين، وكان بلال الحبشي –رضي الله عنه- يردد قائلا كلما اشتدت عليه درجات التعذيب: أحد أحد، أحد أحد ولم يتراجع ولم يفتتن.
وقد حرص رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على حماية الدعوة بعد أن اشتد الضغط عليها في مكة المكرمة، وازداد عناد قريش وظلمها وقسوتها عليه وعلى اتباعه رضوان الله عليهم، حتى أمعنت فيهم تعذيبا وظلما بدون وجه حق، وذلك بعد أن راودوه عن دعوته وقالوا له: "لو أردت ملكا ملكناك علينا، ولو أردت زوجا زوجناك خيرة بناتنا، ولو أردت مالا أعطيناك كرائم أموالنا، ولو كان بك طب (مس من الجن) عالجناك"؛ فأبى صلى الله عليه وسلم وقال لهم: "خلوا بيني وبين الناس" فلم يكن يبتغي شيئا سوى تربية الأمة وتعليمها والأخذ بيدها من الظلمات إلى النور.
ومن هنا كان لا بد من الانتقال إلى مكان آمن يسمح للدعوة بأن تتنفس الصعداء، فجاء أمر الله عز وجل إلى رسوله بالهجرة، ولكن المتتبع لمراحل الهجرة النبوية يلاحظ أن النبي، صلى الله عليه وسلم، أحاطها بسرية كاملة، حرص فيها على ألا يعلم أحد بموعد الهجرة ولا طريقها، ولا وجهتها، وأخفى كل ذلك حتى عن أقرب المقربين له سيدنا أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- الرجل الذي وقف معه وآمن به وآزره، وأحبه حبا عظيما، وكان الصديق أول من آمن من الرجال برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبدعوته، ومع ذلك أخفى النبي، صلى الله عليه وسلم، خطة الهجرة وخطواتها عنه وعن الجميع، وهو بهذا يعلم الأمة كيف يتصرف القائد عندما يتصدى لحدث مهم، أو ينتقل الى مرحلة أخرى، وكأننا به يعلمنا ويعلم الأمة: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"، فأحاط ترتيبات الهجرة بسرية تامة، وعندما بدأ يتحدث إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في المرحلة الأخيرة، إنما كان يوجهه حتى يعد لوازم الرحلة وأدواتها من رفيق خبير بالطريق، وراحلتين تنقلهما، ثم أخبره في آخر الأمر بموعد الرحلة وطريقها إلى المدينة المنورة بإذن الله وأمره.
وهكذا خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم للهجرة، وهو الذي يعلمنا: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، حيث تحرك صلى الله عليه وسلم بطريقة سرية واستراتيجية ومسؤولية، وعندما جاء الإذن وجاء الأمر أخبر الصديق أبا بكر في الوقت الملائم وجاء صلى الله عليه وسلم إلى دار أبي بكر في وقت لم يكن من المألوف أن يزورهم فيه، فقال الصديق، رضي الله عنه: ما جاء برسول الله، صلى الله عليه وسلم إلا أمر عظيم، وربما توقع كنه هذا الأمر، وأنه الساعة التي كان ينتظرها فأخبره عليه الصلاة والسلام أن الله تعالى قد أذن له في الهجرة، وعليه أن يعد العدة ويستعد للخروج معه رفيقًا مؤنسًا معينًا في هذه الرحلة الخالدة، فبكى أبو بكر فرحًا، ومنذ الساعة تزايد إحساسُهُ بالمسؤولية عن سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن نجاح هذه الرحلة الميمونة، استأجر دليلاً خبيرًا ماهرًا مؤتمنًا، هو عبد الله بن أريقط، تسلم الراحلتين يعتني بهما ويعلفهما حتى تأتي الساعة الموعودة، ثم رتب مع عامر بن فهيرة مولاه أن يرقبهما حتى إذا استقرا في الغار ويروح عليهما باللبن من غنيمات أبي بكر كل يوم ليشربا لبنها ولتختفي آثار أقدامهما تحت أرجل الغنم، وكلّف ابنه عبد الله أن يأتيهما كل ليلة حين تهدأ الرِّجل سرًّا ليخبرهما بما سمع من حديث المشركين وخططهم وتدبيراتهم، وكلف أسماء بنت أبي بكر أن تعد سفرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بما سيحملانه في هذه الرحلة من زاد وماء، وكانت تربط السفرة في سرج الجمل بشق من نطاقها فلقبت بذات النطاقيين؛ إذ كانت تنتطق بشق وتربط السفرة بالآخر.
ونزل الرسول وصاحبه إلى الغار وجن جنون المشركين حتى تتبعوا أثرهما ووصلوا إلى غار ثور ووقفوا على بابه، إلا أن الله أعماهم عن أوليائه، وقال أبو بكر لرسول الله: لو نظر أحدهما تحت قدميه لرآنا، فقال له الصادق المصدوق: "ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟"، وصدق ربنا حيث قال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].