الوطن
سهير جودة
وطن يهبط اختيارياً
هل نوطد صلة القرابة والقرب من التدنى والهبوط كل يوم؟

هل نضع طاقتنا فى خدمة الابتذال؟

هل أصبحنا نعانى إفلاساً أخلاقياً وعجزاً عن الرقى؟

هل نحجز مقاعدنا فى الصفوف الأمامية لنشاهد ونشارك فى عزف منظومة الابتذال التى نفتح نوافذها وأبوابها وبواباتها على مصاريعها وكأننا نرتد إلى مرحلة «الطشت قالى» ولكن بشهية مفتوحة أكثر على الابتذال والأدوات وإمكانيات أكبر؟!

بعد هزيمة 67 ذاق الوطن هزيمة نفسية كبرى أحدثت شرخاً عميقاً، وكل ما ظهر على السطح كان يعبر عن الارتباك والفوضى والإحباط والهبوط.

والوطن الآن بعد ثورتين يعيش نفس الأخطاء مع سخاء الابتذال.

وشتان بين الهزيمة فى 67 و25 يناير و30 يونيو، ولكن النتيجة متشابهة، فالثورتان نصر لم تعقبه رؤية الطريق واضحاً، وبالتالى أصبح هناك شرخ جديد وظهرت أشياء كثيرة لم نتبين منها الخيط الأبيض من الأسود.

وما زالت الأشياء إما ملتبسة أو مشوهة، وأجزاء كثيرة من الصور مهزوزة.

فى 67 كان هناك الهدف تحرير الأرض، والآن نحن أمام تحدى الإرهاب والوجود، ولكننا نعيش الاستنزاف بلا استعداد ولا نسعى ليكون الهدف -الذى يجب أن يكون حاضراً متوهجاً- هو ارتفاع مستوى الحياة الاجتماعية للناس تعليماً واقتصاداً واستنارة وسلوكاً وثقافة، ويشارك المجتمع الدولة لحشد كل الطاقات للوصول إلى هذه النتيجة.

الواقع المؤلم أننا نعيش مرحلة «الطشت قالى» فى كل الأشياء.. الإعلام أغلبه «الطشت قالى» وأغلب الفن والثقافة نفس اللحن وسلوكيات الأغلبية منا أيضاً هى اللحن ذاته.

إننا نستسلم للتدنى ونسلم له ونحتفى به أحياناً ونشجعه بالإقبال عليه فنحن فى أسعد الأحوال ننتقد التدنى ولكننا نشاهده فنعطيه شرعية الوجود وكأننا فى عداء مع الرقى.. نركض فى سباق الابتذال.

والتدنى لم يترك شيئاً؛ فهو موجود فى حوارات الناس والتعاملات وفى الخطاب الدينى بفتاويه العبثية وعصبيته واستخدامه كتجارة والنتيجة دعاة «الطشت قالى» فمنهم من يتحدث بالعين والحاجب والأداء التمثيلى وكأنه يقدم نمرة، ومنهم المتطرفون الذين يملأون الحياة زعيقاً وتهديداً بالثأر. إنها نماذج لا علاقة لها بالدين ولا صلة.

الإعلام تتسيده ظاهرة «الطشت قالى» فهناك من يعيش بتقديم عوار المجتمع بهدف الإثارة والجماهيرية وليس بهدف الإصلاح.

وهناك من يمارس.. «العهر الإعلامى» علناً دون خجل أو تراجع.

وهناك قنوات كاملة هى بمثابة كباريهات على الهواء تقدم الفجور بكافة تنويعاته، وهناك قنوات تبيع الدجل الطبى وبيع الوهم والضحايا فى جميع المستشفيات، ويلعب هذا الإعلام على محو التفكير والوعى وهى خطيئة كبرى، ورغم ذلك نترك هذه القنوات حرة طليقة تقدم شعوذة متنوعة ولا عزاء للوعى والعقل، وهناك قنوات ملاكى تعمل من أجل أصحابها ولإطفاء شهوة الكلام لديهم ولإعلان شبق الشهرة بكل الفجاجة، فهناك كاميرا تدور مع صاحبة إحدى هذه القنوات لتقوم بتصويرها فى كل لحظة حتى لا يفوت المواطن متابعة هذه الشخصية التى تجسد الهبوط الاختيارى.

لقد أصبحت كل هذه الظواهر والخيبات وكأنها مخدرات نتعاطاها وندمنها وكأننا لا نمتلك مقدرة مواجهة الواقع أو تغييره لتبقى سحابات الابتذال كثيفة تحجب الرؤية وليبقى الإقبال على هذه الأشكال والقنوات والفنون الهابطة إقبالاً منقطع النظير، ولنبقى نصدر شخصيات مبتذلة وأخرى غير لائقة أو غير جادة أو تتخذ من البلطجة مسلكاً وأسلوب حياة.

ولتبقى أغلب النماذج المرشحة لمجلس الشعب والتى تضج الشوارع بهم من فصيلة «الطشت قالى»، والمصيبة أن الفن والمجتمع -على عمى- يتبادلان الغيبوبة فهما أعمى يسحب أعمى.

بعد 67 كانت هناك أشياء كثيرة رديئة من أفلام وأغانٍ وهى الفترة التى شهدت انتشار المخدرات إلى درجة أنها أصبحت ظاهرة ولكن المجتمع كان ما زال على تماسكه وكان الردىء منه يقابل بالنفور، أما الآن فنحن أدمنا القبح واعتدنا التدنى وما يحدث من إيجابية هو اجتهادات وليس مناخاً أو تياراً عاماً يجمع الناس.

فنحن نستسهل الرؤى ونعتاد القبح وكأن التدنى أصبح فى العروق على مهل وأصبحنا لا نرى فى الابتذال الفاضح كارثة أو جريمة.

والهبوط يواصل بإصرار إزهاق روح الرقى والوعى، فهل وطدنا علاقتنا بالابتذال فلم تعد قدماه تتراجع للخلف ولم يعد لشهواته سقف محدد أو حد؟

نحن نستبدل الابتذال والمسئولية على الجميع ومن قيم هابطة إلى أخرى أكثر هبوطاً.

الفزع أصاب المجتمع بعد مرحلة الطشت قالى فى 67 والآن نعيش هذه المرحلة بكامل الاعتياد والاستمتاع أحياناً و«من تدنى إلى تدنى يا قلبى احزن».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف