الأهرام
د/ شوقى علام
دروس من الهجرة
خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة وقلبه مُعلَّقٌ بها، ولولا أنه أُجْبِر على الخروج لم يترك وطنه مع المعاناة الشديدة التى لقيها من قريش منذ أن جهر بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث نظر إليها بعين الـمُحِب مخاطبًا إياها حين وداعها بعاطفة مفعمة بالحنين الإنسانى وبالحب الإيمانى قائلا: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ماسكنت غيرك» (سنن الترمذي/ 3926).

وهذا درس عظيم من دروس الهجرة فى حب الوطن، مهما كان الخلاف مع أهله، فهى فطرة الله التى فطر الناس عليها؛ ولذلك قالوا: (حب الأوطان من الإيمان)؛ حتى يفهم أولئك النفر الذين يسعون إلى نزع هذه الغريزة عن الإنسان بجعل الوطن حفنة من التراب لا قيمة لها، وهم بهذا يُغيِّبون الأجيال عن جزء من الشعور الإنسانى الغريزي، وأنَّى لهم أن يضادوا الفطرة والغريزة ؟!.

ومن شاء أن يراجع كلمة الوطن ومحل المولد فى كتب الفقهاء وما ترتب على ذلك من أحكام شرعية كقصر للصلاة ورخصة للفطر وإخراج للزكاة فى بلدها... وغير ذلك ، مما يدلل على أن هؤلاء ابتعدوا فى هذا الجانب عن النظر الفقهى السديد.

ثم إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مع ملاحظة العناية الإلهية له، وأنه يوحى إليه، إلا أنه أعد العدة وأحكم الخطة لهذه الرحلة المباركة فى تاريخ المسلمين، حيث هيأ أبو بكر الصديق رضى الله عنه الرواحل وجهِّز الزاد، وبحث عن الدليل وكان رجلًا مشركًا، وهو ابن أريقط؛ ليمشى بهم فى طريق غير مسلوك، ويخرجون فى الليل ويدخلون الغار.

وهذا درس ثانٍ يمكن أن يقف عنده الإنسان طويلًا، وهو فى رحلة الحياة التى أُوكل إليه فيها مهمة التعمير والبنيان والعمل الجاد فى هذا الكوكب الذى يعيش عليه، فإذا كان هذا الإعداد لهذه الرحلة قد أخذ الجد منه مأخذه، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يمكن أن يكونَ ضمن الإعداد لهذا الحدث التاريخى مع أن الوحى يسدده، فجدير بنا ألا تكون حياتنا فى صغير أمورنا وكبيرها أفرادًا ومجتمعات ومؤسسات؛ بل والدولة كلها نسير على غير هَدى من تخطيط سديد قويم يُتَّخذ فيه كل النظريَّات العلمية والأفكار التى تؤدى إلى تحقيق مصالح الناس فى هذه الدنيا.

على ألا يغيب عن البال ونحن نبذل عصارة أفكارنا نحو إعداد خطة نسير عليها أن التوفيق والعون من الله سبحانه وتعالي؛ إذ نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر بقوله: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا» (سنن ابن ماجه/ 4164)، فأرشدنا إلى ضرورة الأخذ بالأسباب مع تعلقنا بالله سبحانه، وأن الأسباب ليست بذاتها مؤثرة، إنما الكل يدور فى مراد الله: «قل إن الأمر كله لله».

ويعقب التخطيطَ العملُ الدءوب الجاد الذى يوصِّل إلى الهدف وإلى الغاية التى تُرْسَم من البداية، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من عاون على أمر الهجرة بل بعد وصوله صلى الله عليه وسلم إلى مدينته الميمونة فى عمل دائم مستمر، فلم يكن الوصول إلى هذا المكان الآمن هو الغاية القصوى ونهاية المطاف، بل كانت الغاية إقامة هذا الكيان الذى يقوى به الإسلام، وهو إقامة الدولة الحقيقية التى يتحقق من خلالها البناء الأخلاقى والحضارى للإنسان وما حوله من أرض ونبات وحيوان وجماد؛ إذ ما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رحمة للعالمين.

على أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة لم يحط به اليأس فى لحظة ما، بل كان يحدوه الأمل فى كل خطوة يخطوها، وكان قلبه معلقًا بمكة حتى إن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما روى فى سبب نزول قوله تعالي: «إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَيَ مِيَعَادٍ» [القصص: 85]: أنها نزلت مبشِّرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودته مرة أخرى إلى مكة.

ثم تتوالى الأيام حتى يعود رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرًا، إلا أن أهلها منعوه كما أخرجوه، وقد عقد معهم صلحًا فيه من الشروط الجائرة التى ينبئ ظاهرها عن ضعف من المسلمين، إلا أن القرآن الكريم نزل مبشرًا بأنه الفتح المبين، ومبشرًا بدخول مكة، وذلك فى صدر سورة «الفتح»: «إنا فتحنا لك فتحا مبينًا»، ثم فى آخرها فى قولِه تعالي: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَالْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِم َمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا» [الفتح: 27].

إنها دروس عظيمة فى بث الأمل فى نفوس أولئك الذين يعملون لخدمة دينهم وأوطانهم، وأن عليكم أن تعملوا متوكلين على ربكم مهما كانت الصعوبات والعراقيل؛ إذ الأمل فى النصر والوصول إلى الأهداف مرتبط دائمًا بالإعداد والتخطيط والعمل. ونحن أحوج ما نكون إلى هذا الدرس العظيم فى مصرنا العزيزة فى هذا الوقت الفارق من تاريخها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف