كان الله في عون القراء والمشاهدين.. فهم في سبيل رغبتهم في المعرفة بقراءة الصحف أو مشاهدة القنوات التليفزيونية يتحملون فوق قدرتهم علي الصبر بسبب ما يلقي عليهم من آراء وتحليلات متناقضة ومتضاربة ومبالغة.. كثيرا ما تكون مثيرة للسخرية من سطحيتها أو كذبها أو سماجتها.
يكتب عشرة أشخاص أو يتحدثون في قضية واحدة فيذهب كل منهم في واد مدعيا أنه العالم ببواطن الأمور الاستراتيجية وحامل لواء الحقيقة.. ثم تكتشف أنك وقعت فريسة لخيالات هلامية جامحة.. وأنك أمام مؤلف درامي لا يتقن صنعته.. وبالتالي لا تخرج بشيء.
ليس لذلك علاقة بتعدد الآراء وتنوعها فهذا أمر محمود.. وإنما له علاقة بالفهلوة الاستراتيجية والاختلاق والتلفيق بدلا من البحث والتدقيق.
ومنذ أن بدأت الحملة العسكرية الروسية في سوريا حاولت علي سبيل المثال أن أعرف من الخبراء الاستراتيجيين الدوافع الحقيقية لهذه الحملة ومآلاتها فوقعت علي ما زادني حيرة وتشويشا.. وذلك علي النحو التالي.
* بعضهم قال إن روسيا تكرر أخطاء الحرب الباردة في سوريا.. وفي إمكان المؤرخين أن يحددوا التدخل العسكري الروسي الحالي في سوريا كتغطية بداية النهاية لعصر بوتين مثلما كان الحال في عام 1957 حيث تدخلت مصر في المشهد السوري المعقد فكانت بداية النهاية للمد الناصري.
* ويري بعضهم أن التدخل الروسي في هذا التوقيت يؤكد رغبة روسيا في استعادة دورها في الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ليقوم بوتين ببناء روسيا قوية جديدة.
ويقول آخرون إن تدخل روسيا في ظل التردد الأمريكي والارتباك الذي ظهر في رد إدارة أوباما بشأن هذا التدخل يوضح انسحاب أمريكا تدريجيا من الشرق الأوسط وإفساح المجال للاعب الروسي في المنطقة.
* وهناك رأي يؤكد أن ما يجري اليوم في سوريا هو حرب باردة بين أمريكا وروسيا أصغر من تلك الحرب التي استمرت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية وانتهت بخروج الاتحاد السوفيتي من السباق عام .1990
* ورأي آخر يقول إن التدخل الروسي في سوريا هو "شرك" نصبته أمريكا لروسيا لإيقاعها في أكثر المناطق الملتهبة سياسيا واستراتيجيا في العالم لتنفيذ حرب بالوكالة عن أمريكا ضد روسيا لاستنزافها اقتصاديا وعسكريا وبالذات عندما تقرر الدخول في حرب برية علي أرض سوريا.
* وبعضهم يؤكد أن التنسيق بين روسيا وأمريكا في سوريا يشير إلي اتفاق البلدين علي حرمان إيران من تحقيق أي مكاسب استراتيجية في سوريا وذلك عندما تكون الصدارة لروسيا وتقف إيران في الصف الثاني.
* وهناك من يؤكد أن الأوضاع الحالية في سوريا مقدمة لتسوية سلمية تنهي الصراع السوري مع إيجاد مخرج آمن لبشار الأسد والعلويين.. فقد جاء التدخل الروسي في الوقت المناسب عندما رأت روسيا أن النهاية قريبة بالنسبة لبشار وأن سوريا ستضيع وهي قاعدة أساسية لها في المنطقة ولابد أن تحافظ علي مصالحها في هذه القاعدة.
* فريق أخر يري أن التدخل الروسي سيغير موازين القوي والمعادلة ويزيد الفوضي في المنطقة وغير واضح الأهداف ونتائجه غير معروفة علي المدي البعيد.. فقد انتقل الصراع من حرب أطراف سورية إلي حرب بالوكالة بين أمريكا وإسرائيل.
والآن.. هل وصلت إلي رؤية محددة من خلال هذه التحليلات المتناقضة والمتضاربة؟!
لا أظن.. كان الله في عونك