الأهرام
عادل السيوى
أمـى وحسـن سـليمان
«اليوم، واليوم بالتحديد ستقوم القيامة، قالتها أمى بيقين مكتمل، وعندما سألتها عن سر تأكدها، ردت بأن» من لا يرى من الغربال أعمى، وأن علامات تظهر وأشياء تحدث الآن تنذرنا بأن الساعة تقترب، فقد استعارت جارة المنخل ولم ترده، وبعد أيام ذهبت أمى لاستعادته، فأنكرت الجارة أنها أخذته، واتهمت أمى بأنها قد كبرت وخرفت، وفقدنا بذلك المنخل الحرير. كانت أمى تعتز بعتادها القديم، وهو محدود بطبعه، ما بين مخرطة ومفرمة يدوية، وغربال ومكواة من حديد ومصفاة، وموقد كيروسين كبير عالى الصوت، وآخر أقل ضجيجا وقطع أخرى أكثر تواضعا. كانت أمى تحب أدواتها وتكلمها أحيانا. دخلت مطبخنا بعد ذلك اجهزة حديثة كلها أكثر دقة وكفاءة، ولكن امى لسبب ما كفت عن الحديث مع الأشياء التى تحيط بها فى مطبخها الصغير. تصادف بعد ذلك أن جاءت جارة أخري، وطلبت الهون النحاسي، اعارت أمى هونها بكل طيبة، ومرت أيام ولم يعد، وذات ظهيرة سمعت رنة الهون يدق فى مطبخ تلك الجارة، وكانت تميز رنته بدقة، فتذكرت أنها أعارته لها، وصعدت تطلبه، فأنكرت السيدة أنها اخذته، كادت أمى أن تجن، فقد سمعت صليله المميز آتيا من عندها بكل وضوح، ولكن الجارة أقسمت بأنها لم تدخل مطبخها فى ذلك اليوم من بابه، لم تعرف أمى ماذا يمكن أن تفعل، وعندما رأتنى كانت قد وصلت الى قناعة كاملة بأن ساعة الحساب آتية لاريب فيها وأنها لن تمهل أحدا.

حدث هذا منذ زمن بعيد، وكنت أتردد كثيرا آنذاك على مرسم حسن سليمان بشارع شامبليون، وتعلمت الكثير منه، رسمت بين يديه، ولم يبخل على الرجل بخبراته الهائلة، وثقافته الفائضة، طالتنى بالمثل سخريته المريرة، وتابعت خصوماته الجامحة ومبالغاته، وكان مونولوجه الممتد عن ايقاع المدينة ملهما، كان حسن سليمان يترحم على قاهرة لم أعرفها، وكأنها مدينة أخرى اختفت، قامت قيامتها، قاهرة أكثر تماسكا وانسانية عاش فيها شبابه، كانت تسمح باختلاط وتجاور واختلافات، وتفسح مساحات للجميع، كان يشعر بين طرقاتها أن كيانا متينا يحتضنه، ويراقب تلك الصلات الخفية بين قبة المسجد والقوس المشدود فوق البوابة القديمة، وشكل القلة وكومة الترمس والتفاف جسد امرأة بإحكام مدروس تحت الملاية اللف، وذلك التناغم بين امتداد صوت المؤذن، ومداعبة النسيم لأشرعة المراكب، واللحن الذى تسمعه من مقهى بعيد، كان يتحدث دائما عن نسيج متماسك فقدناه، ولم ننجح فى خلق بديل له، وهو ما دفعنى يوما لأن احكى له عن نبوءة أمى وتأكدها من أن القيامة تدق على ابوابنا، ضحك الرجل من قلبه عندما سمع هذا الكلام، وقال ما معناه أن امى محقة تماما، فالقيامة تقوم كثيرا هذه الأيام، ولكنها قيامة العلاقات التى اعتدناها وشكلتنا، التغيرأصبح قاسيا، عوالم تموت وعوالم أخرى تبرز بشراسة، ومن يشاهد زوال عالمه يعتقد ان الكون كله لابد وأن ينتهى معه.

مرت شهور بعد هذا الحديث، وفى يوم أعطانى حسن سليمان وهو يودعنى قرب باب مرسمه، لفة ثقيلة من القماش، فتحتها، كان بداخلها هون جميل، صاغه صانع حاذق بلا جدال، وكأنك تمسك بتحفة فاطمية لن تتكرر، تكوين متين، قبضة مدروسة، يعطيك الإحساس فى الحال بأنه سيهرس كل مايقع تحت دقاته، لحظة من الفرح النادر مرت بيننا وضحكنا معا ونحن نسمع رنينه، كان هونا من النحاس أكثر جمالا من هون أمى القديم، قال حسن سليمان: «قل لأمك ان الدنيا لسه بخير وان القيامة جايز حا تتأخر شوية».

نشر هذا النص بأخبار الأدب من عشرسنوات، وكان العزيز حسن سليمان مازال بيننا، والآن تحل ذكرى رحيله، ويتسع حجم الافتقاد، وأدرك عمق الأثر الذى تركه فى بعد كل هذه السنين، وحضوره يكبرداخلى كما تكبر ذكرى امى تماما، وادرك الآن كم كان اللقاء به حاسما فى حياتى. فنان وكاتب رفيع القيمة، تولد نصوصه من مناطق ذاتية تماما، ولكنها تنفذ بسهولة وعمق الى المشترك الانسانى، تعلمت بالفعل من كتبه ومقالاته فى الكاتب، وفى جاليرى 68 ومازلت اتذكر مقاله المدهش عن حالة الابداع حين يصبح الفنان إلها وطفلا وسمكريا، معا فى لحظة واحدة .أعمال الفنان الكبير حسن سليمان دروس فى التكوين والبناء، ومواجهته للحياة لم تختلف عن مواجهته لسطح اللوحة، نزوع عميق للتمكن والسيطرة، ورغبة أعمق فى الانصهار والتواصل، يستحضر هذا التباين الحاد عبر شجن نوعي، شجن رمادى، ينسجه ببراعة من تداخل الضوء والظل، حيث تشرق الأشكال وتكشف قوتها وحيث تفقد بالمثل ملامحها وتضيع بين الظلال.

تعرفت عليه فى مطلع الثمانينيات وبدا لى وكأنه قد اختارالصدام المتواصل مع كل ما يحيط به من تهافت، رغم ذلك كان يزن أقدار الناس بدقة بالغة فى أعماقه، مع احتفاظه بميل غريزى عجيب لخدشهم، لديه مخزون وافر من الحنان ولكنك لن تنجو من عدوانيته بأى حال، ورغم دفاعه عن قيم ذكورية عتيقة، إلا أنه كان مولعا بذلك البعد الانثوى الحاسم فى الفن وفى الحياة.

عشق حسن سليمان القاهرة، مدينتنا الهادرة، التى تشحن أرواحنا كل يوم بفيض لا يتوقف من هوسها، مدينتنا اللاهية، التى لاتبالى بما تفعله فينا، ولا بما نفعله، وكأنها مكتفية بما فى ذاكرتها من صخب التواريخ والاشكال والوجوه، كم كنت احب السير بجانبه فى شوارعها، أتذكره دائما وتصاحب ذكراه ابتسامة، قال لى ونحن نسير مرة، فى يوم صيفى وقت الغروب تحت مرسمه، انت فاكر يا عادل ان الهوا اللى جاى على صدرك ده هو نفس الهوا اللى بيجى على صدري، لم أفهم السؤال، فأضاف: لا طبعا ده هوا مختلف تماما، أصل الهوا من غير الإحساس بيه موش موجود أصلا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف