الأهرام
ابراهيم عرفات
مصر وتونس والبديهيات
كنت أتمني أن يفوز مصريون بجانب إخوتنا التونسيين بجائزة نوبل للسلام لهذا العام. لكن مصر ليست تونس. فلا الدولة نشأت وتطورت في المكانين بطريقة واحدة، ولا الإسلاميون فيهما لديهم عقليات واحدة، ولا ثورتاهما الشعبيتان مرتا بظروف واحدة. وليس في تلك الأمنية حسد للإخوة في تونس علي إنجاز استحقوه أو حسرةً علي نسيجنا السياسي الذي لم يلتئم بعد. هي مجرد أمنية مشروعة في أن نصبح أفضل وأن ننجز أكثر، وأن نتعلم أين أخطأنا فلا نكابر وأن نعرف لماذا تعثرنا فلا نواصل.

نيل رباعي الحوارالوطني التونسي جائزة نوبل للسلام لا يعني أن أحوال تونس باتت مثالية. فتونس لا يزال فيها تشنج. تعيش مثلنا تحت تأثير خطاب إعلامي عقيم يؤجج المناكفات ويدفع إلي مناطحات لا معني لها، وتشهد بين حين وآخر أعمال عنف تصل أحياناً إلي وقوع اغتيالات سياسية، ويسكنها قلق مستمر بسبب مايجري في ليبيا، كما لم تصل بعد إلي عدالة انتقالية تصفي إرث الفساد والظلم الذي خلفه بن علي، وينقصها حل جذري للانقسامات الواضحة بين العلمانيين والإسلاميين. مثل هذه المشكلات وغيرها يقر بها وبمنتهي الأمانة المثقفون التونسيون حتي وهم يشيدون بالانجاز الدولي الذي حققه رباعي الحوار الوطني في بلدهم والذي يضم الاتحاد العام التونسي للشغل، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ونقابة المحامين، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة. نعم لقد حقق التونسيون نتائج طيبة في مسيرة حوارهم الوطني لكن المشوار لا يزال أمامهم طويلاً.

لكن المشوار أمامنا نحن في مصر أطول وذلك لثلاثة أسباب علي الأقل. أولها أننا لا نملك رباعي أو ثلاثي أو ثنائي أو حتي أحاد« من النقابات والاتحادات تتمتع بفعالية كتلك التي يتمتع بها الرباعي التونسي. ولو كانت الأمور تقاس بحساب السنين لوجب أن تملك مصر إتحادات ونقابات مهنية مستقلة حقاً، قوية حقاً، ومؤثرة حقاً. لكن عصور النفاق الطويلة للمستبدين جعلت تلك المؤسسات هشة مستباحة من السلطة بدلاً من أن تكون ناصحة لها إن أخطأت ومعيناً لها في إدارة الشأن العام. والسبب الثاني أن إسلاميي مصر ليسوا كإسلاميي تونس. لقد رأيت مراراً علمانيين تونسيين في عدة ندوات وبجانبهم إسلاميين من بلدهم. كان العلمانيون يغضبون بشدة من الإسلاميين ويحتدون عليهم. لكنهم ما أن يأتي الحديث علي ذكر الإسلاميون المصريين بالتحديد إلا وتكاد تلمح ألسنة علمانيي تونس وهي تلهج بحمد الله والثناء عليه. نعم تونس فيها إسلاميون شديدو الخطورة. لديهم سلفيون جهاديون وقاعديون وداعشيون. لكن الكتلة الأهم من إسلامييها والتي تمثلها حركة النهضة، وبرغم عدم قيامها بالتجديد الكامل لمرئياتها الفكرية، إلا أنها تبقي أكثر انفتاحاً علي العالم حتي من بعض الليبراليين المصريين. في المقابل فإن الكتلة الأعظم من الإسلاميين المصريين ما زالت تعيش وراء قضبان أفكارها المحنطة، التي تدفعها إلي التصرف بشكل يرعب المصريين ويخيفهم. الإسلاميون المصريون برغم قدم جماعاتهم عجزوا بعد أن ماتوا فكرياً عن أن يحيوا سياسياً. أخفقوا فيما نجح فيه إسلاميو المغرب وتونس وتركيا الذين تمكنوا برغم أخطائهم وزلاتهم أن يطمئنوا مواطني بلدانهم إلي أنهم منهم وأن الدولة الوطنية يبقي لها مهما ارتفعت شعارات الإسلام السياسي ـ قدسية لا يمكن التفريط فيها.

وثالث تلك الأسباب أن الدولة في مصر غير الدولة في تونس. تونس مثلاً مرت بمرحلة علمنة قوية مع الاستقلال لم تمر بها مصر. وانفتحت ثقافياً علي أوروبا أكثر من مصر. تونس كذلك بعد بن علي تعاني من الدولة العميقة. أما مصر فتعاني أكثر من الدولة العتيقة. الدولة العميقة تكاد توجد في كل البلدان. هي دولة أصحاب المصالح الخاصة الذين يستنزفون المال العام ويحار الشعب وقادته فى إدارة اللعبة معهم. هي دولة صعبة لكن الأصعب منها الدولة العميقة وهي واضحة في الحالة المصرية. تلك الدولة التي يعمل الجميع فيها علي قديمة. المجتمع والحكومة، المؤسسات والشركات، المحليات والأفراد. فكرها قديم وتصرفاتها عتيقة ومعيقة. تعشق الجمود البيروقراطي وتحب المركزية.

ومثلما سعدنا عندما فاز أنور السادات ونجيب محفوظ وأحمد زويل ومحمد البرادعي بجائزة نوبل، يجب أن نسعد لفوز الرباعي التونسي بجائزة هذا العام. ففوزهم يعطينا الأمل ليس في حصد تلك الجائزة الكبري مرةً خامسة وإنما في حصد جائزة أكثر أهمية هي سلمنا الاجتماعي وتعايشنا المشترك. إن مصر بتاريخها الطويل لم تكن جديرة فقط بالحصول علي جوائز دولية مرموقة وإنما بأن تكون مقراً لتقديم الكثير منها للعالم. لكن حتي نشجع العالم علي صنع السلام علينا أن نصنعه أولاً لأنفسنا بأنفسنا. أن تتغير قناعات الجميع. أن ترسخ لدي الدولة العتيقة والإسلاميين وكافة التيارات السياسية قناعة لا تتزعزع بأن السلم الوطني يحتاج من الجميع إلي مراجعة إلي أن يقتنع بأن الحوار وتقاسم المسئولية هما الحل وأنه لا خروج من النفق بغير ذلك. شيء من هذا عبر عنه الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي في معرض تعليقه علي فوز بلاده بالجائزة حينما قال إن الجائزة تكرس مبدأ التوافق في بلاده وأن لتونس ليس لها حل آخر إلا الحوار.

نحن في مصر نحتاج إلي نفس الحل. إلي نفوس جديدة تظهر خوفاً أكبر علي الوطن. إلي إسلاميين يتطهرون من ذنوبهم بعد أن ظل بعضهم يظن لمجرد أنه إسلامي أنه أنقي من في الأرض. وإلي صحوة الدولة العريقة لتقضي علي الدولة العتيقة المعيقة وتؤسس لدولة صديقة للمصريين تعيش صحوة ضمير وتقدم أداءً جديداً. دولة محايدة تنفتح علي كافة التيارات وتكون لكل التيارات فتستعين بأصحاب الكفاءة وتنظف المشهد من أصحاب الدناءة والبذاءة. ولا يقل أهمية عن صحوة ضمير الدولة صحوة ضمير منظمات المجتمع المدني التي يجب أن ينظر كثير من قياداتها إلي أنفسهم بخجل بسبب ترهل وضعف منظماتهم بعد أن كان لها شأواً واحتراماً. فهذه المنظمات هي الرابط بين الدولة والمجتمع وهي الوسيط عند الحاجة عندما تقع أزمة. هذا ما فعلته منظمات الرباعي التونسي التي استحقت مجتمعةً جائزة نوبل للسلام. وهو ما يمكن أن نجد فيه نهجاً مناسباً لنا. نعم مصر ليست تونس لكنهما ليستا مختلفتين عندما يأتي الأمر إلي أمور باتت من قبيل البديهيات.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف