اليوم يذهب المصريون لانتخاب أول مجلس للنواب بعد إسقاط حكم الإخوان. الانتخابات التى تبدأ اليوم هى انتخابات تأسيسية وتجريبية فى آن معاً. فموازين القوة التى ستسفر عنها هذه الانتخابات ستحدد مسار نظامنا السياسى فى السنوات المقبلة. والطريقة التى سيتصرف بها الأحزاب والمرشحون والناخبون هى تجربة نختبر فيها الطريقة إلى سيتصرف بها كل هؤلاء فى ظروف سياسية جديدة تماماً على هذا البلد.
انتخابات اليوم هى انتخابات جديدة وغير مسبوقة بكل معنى الكلمة، فلا شىء فى هذه الانتخابات يشبه أى انتخابات دخلتها مصر منذ عرفنا الانتخابات فى عام 1924. انتخابات اليوم هى أول انتخابات تجرى فى مصر دون أن يكون فيها حزب كبير مهيمن. ففى انتخابات ما قبل عام 1952 كان هناك حزب الوفد عملاقاً يكتسح أغلبية المقاعد. حرمت مصر من المنافسة الحزبية والانتخابات التعددية طوال ربع القرن التالى لوصول الضباط إلى الحكم، وعندما عادت الأحزاب كان هناك حزب الدولة المهيمن ممثلاً فى الحزب الوطنى الديمقراطى، الذى اكتسح مقاعد البرلمان تاركاً لأحزاب المعارضة الفتات من المقاعد. تم حظر الحزب الوطنى بعد إسقاط نظام مبارك وجرت انتخابات مجلس الشعب فى نهاية عام 2011 وظهر حزب الحرية والعدالة، الواجهة التى تخفت وراءها جماعة الإخوان، ليفوز بأكثرية المقاعد، بالإضافة إلى حزب النور السلفى الذى منح تيارات الإسلام السياسى مجتمعة أغلبية كبيرة تجاوزت السبعين بالمائة من مقاعد البرلمان، لنجد أنفسنا وقد عدنا مرة أخرى لزمن الحزب المهيمن.
الأحزاب المتنافسة فى انتخابات اليوم لا يوجد فيها حزب يشبه الوفد أو الوطنى أو الإخوان فى الهيمنة الطاغية والشعبية الكاسحة. انتخابات اليوم تقدم فرصة لم تتح من قبل للقوى السياسية التى طالما عانت من التهميش والحياة فى الظل لاختبار قوتها وتأسيس ظهير شعبى لها. للأسف فإن البعض من الأحزاب اليسارية والليبرالية والإسلامية المعتدلة أهدرت هذه الفرصة عندما فشلت فى إعداد نفسها للانتخابات وفى تكوين التحالفات فيما بينها. قرر البعض من هؤلاء مقاطعة الانتخابات والانسحاب منها بحجة إجرائها فى ظروف غير مواتية، وهى حجة أكثر منها سبباً. فالانتخابات فى مصر لم تجر أبداً فى ظل ظروف نموذجية مواتية، وليس مقبولاً من قوى ترفع شعارات ثورية وتظهر الاستعداد للتضحية بالغالى والرخيص من أجل تقدم الوطن، أن تتردد فى تقديم التضحيات المطلوبة لحملة انتخابية ناجحة، وهى تضحيات أقل بكثير مما هو مطلوب لتحقيق أهداف التغيير الراديكالى ذات الطبيعة الثورية التى يتبناها أغلب القوى المنسحبة.
الظروف التى تجرى فيها انتخابات اليوم جديدة على الناخبين بقدر ما هى جديدة على الأحزاب والقوى السياسية. الاصطفاف وراء راية الهويات الكبرى أو الانحياز لإحداها فى لحظات الانقسام كان هو الاختيار السهل والعامل الحاسم فى اختيارات الناخبين فى كثير من الانتخابات التى عرفناها من قبل. الوطنية المصرية والجامعة الإسلامية هما الهويتان الكبيرتان اللتان تصارعتا على كسب تعاطف جماهير الناخبين لعقود طويلة. اكتسح الوفد انتخابات ما قبل عام 1952 بقوة عقيدة الوطنية المصرية التى نجح الوفد فى احتكار تمثيلها دوناً عن كل الأحزاب التى نافسته. ظهر الإخوان كمنافس للحزب الوطنى الحاكم طوال العقدين الأخيرين من حكم مبارك، حتى وصلوا لمرحلة اكتساح الساحة السياسية بعد سقوطه رافعين رايات الهوية الإسلامية.
هوية مصر ليست موضوعاً للمنافسة فى انتخابات اليوم، فالوطنية المصرية هى المظلة الجامعة لأغلب الأحزاب والقوى المشاركة دون أن يملك أى منها حق ادعاء تمثيله لها، أما الهوية الإسلامية فهى مطروحة على استحياء من جانب حزب النور الذى فرض عليه اتخاذ جانب الدفاع بعد انقلاب القسم الأكبر من الرأى العام على أحزاب الإسلام السياسى. تراجع دور الهويات الكبرى فى انتخابات اليوم يمنح فرصة نادرة للأيديولوجيات والهويات الفرعية اليسارية والليبرالية والإسلامية الوسطية، وهى الفرصة التى لم يفوتها بعض الأحزاب المحسوبة على هذه التيارات فيما أهدرها البعض الآخر بسبب الطريقة البائسة التى تعامل بها مع هذه الانتخابات.
هيمنة الحزب الحاكم على الانتخابات التى جرت فى بلادنا منذ منتصف السبعينات وضعت الدولة طرفاً مباشراً متنافساً على أصوات الناخبين. موارد الدولة ونفوذها وقدرتها على التدخل بالتزوير كانت حاسمة فى تحديد اختيارات الناخبين طوال الأربعين عاماً الأخيرة وهو ما يغيب عن انتخابات اليوم. ليس للدولة حزب سياسى يتنافس فى هذه الانتخابات، ورغم ما يبدو من علاقة وثيقة بين الدولة وقائمة «فى حب مصر»، فالأخيرة لا تتنافس سوى على عشرين بالمائة من مقاعد مجلس النواب، والعلاقة المفترضة بينها وبين الدولة هى مسألة سمعة وانطباعات أكثر منها أى شىء آخر، فلا موارد الدولة الدعائية مكرسة لخدمة هذه القائمة، ولا الجهاز الحكومى التابع للدولة يحشد الناس لتأييدها. الناخب الذى يذهب للتصويت فى انتخابات اليوم يختار بين مرشحين متعددين ليس من بينهم من يدعى صلة بالدولة ولا قدرة خاصة على جلب منافعها. فالدولة ومواردها وتدخلها ليست عاملاً حاسماً فى تقرير نتيجة انتخابات اليوم، والأمر فى أغلبه بات متروكاً للمجتمع بكل ما فيه من قوى شريرة أو خيِّرة، وبكل ما فيه من عائلات وعصبيات، وما فيه أيضاً من قدرة على استقبال الأفكار والرؤى السياسية، وبكل الفقر الذى فيه والذى يدفع بعض الناخبين للتصويت للمرشحين من الأثرياء، وبما فيه أيضاً من عزة نفس وتعفف عن الرشوة وشراء الضمائر، وفى هذا فليتنافس المنافسون.