الأهرام
يوسف القعيد
تسع سنوات فى الخنادق «3»
وصلت لسيدى جابر. حسب نصيحة من نصحونى بالنزول فيها. بعد ذلك ستصبح سيدى جابر علامة مهمة. المحطة التى أستقل منها القطار وأنزل فيها كلما جئت للإسكندرية أو سافرت منها. وهناك كتاب لنجيب محفوظ حوار أجراه معه محمد سلماوي. عنوانه: محطة سيدى جابر. نشر بالإنجليزية. والفكرة الجوهرية فى الكتاب أن معظم الركاب إن لم يكن كلهم ينزلون فى سيدى جابر. ولا يبقى فيها إلا القليل الذين يواصلون الرحلة حتى محطة مصر.

وكان نجيب محفوظ يبقى بمفرده فى القطار حتى محطة مصر. وعندما تقدم به العمر بدأ يشعر أنه ترك محطة سيدى جابر وراءه. يكمل مشواراً بمفرده. بعد أن نزل من القطار الركاب الذين كانوا يشاركونه الرحلة. ربما برقت الفكرة فى ذهن نجيب محفوظ بعد أن مات معظم أصدقائه ومجايليه وزملائه ورفاق رحلته. أصبحت حياته مليئة بالموتي. وكل من كان يحيط به كانوا من الشباب. لذلك تصور أنه فى الدقائق العشر التى يستقل فيها القطار بعد نزول الركاب فى سيدى جابر. تمثل مرحلة أخيرة من العمر.

جاهدت حتى يتركنى والدى أذهب بمفردي. كنت أشعر بالخجل من فكرة ذهاب أحد معي. كنت كبير إخوتى ولم يكن من بينهم من يمكنه الذهاب معي. كما أننى رفضت أن يسافر معى أحد أقاربنا أو أقارب أمي. فأمى لم يكن لها إخوة. كانت وحيدة. أو أن يستقبلنى أحد بلدياتى ممن تغربوا فى الإسكندرية. وما أكثرهم. مع استعدادهم لاستقبالى وتوصيلى إلى المعسكر. وهو الاستعداد الذى لا يمكن أن تجده الآن عند أحد.

محطة القطار ورائي. والشارع النازل إلى البحر أمامي. رأيت زرقة المياه على البعد. كانت ممتدة. تتلاشى فى الفضاء البعيد. رأيت التقاء زرقة البحر بزرقة السماء. وشاهدت طيور البحر ترفرف فى سماء صامتة هادئة ساكنة. رغم الضجيج. مازلت أشعر بطعم الهواء الذى تنفسته بمجرد أن سرت فى الشارع. هواء مشبع بمياه البحر. درجة حرارة أقل. نسمة هواء كأنها آتية من الجنة. حسدت كل من يعيش بالمدينة. ومن يومها وكلمة الميناء لا تدور فى عقلى إلا عن الإسكندرية. زرت موانى كثيرة فى أماكن أخرى من العالم. وقفت على شاطئ جدة. وتمشيت على كورنيش طنجة. وما أكثر الموانى التى قضيت فيها ليالي. إلا أن الإسكندرية تظل هى الإسكندرية. لم يجانب المصريون الحقيقة عندما غنوا لها:

- الإسكندرية ماريا وترابها زعفران.

لم أجد نفسى بحاجة للسؤال عن معسكر التجنيد. جميع الذين كانوا يسيرون فى الشارع كانوا يتجهون له. سرت مع السائرين ولم أسأل. حتى وجدت نفسى أمام المعسكر. كانت اللافتة المعلقة على باب المعسكر الخارجى مازالت تحمل اسم: الجمهورية العربية المتحدة. الإقليم الجنوبي. هذا على الرغم من مرور ثلاث سنوات على الانفصال. وانتهاء تجربة الوحدة مع سوريا التى كانت نواة لكيان عربى كبير يحقق حلم عبد الناصر فى الوحدة العربية. التى ربما كانت الحل الوحيد لمشكلاتنا. على باب المعسكر كانت الوزارة تحمل مسمى وزارة الحربية. غيرها السادات بعد سلامه مع الصهاينة لمسمي: وزارة الدفاع. أليست وزاراتهم التى اعتدت علينا فى كل الحروب اسمها وزارة الدفاع؟!.

مكننى الخطاب الذى معى من دخول المعسكر بسهولة. سلمت خطابى لصول آخر. كان عكس صول إيتاى البارود. قصيرا وسمينا واللحم يغطى كل مكان فى جسمه. ويبدو معجباً بالعمل الذى يقوم به. أخذ الخطاب مني. فرده أمامه. قرأه بعناية. لم يكن فى الخطاب ما يبرر إطالة النظر فيه. كان يفيد فقط بوصولى من أجل التجنيد.

إسكندرية الشتاء والمطر الدافئ. لا يوجد هنا البرد الذى يلسع الإنسان فى القرية. دفء غريب يشع من البحر الذى كان يحد المعسكر من جهة الشمال. لون رمادى يخلو من الألوان الأخري. لن أراه بعد ذلك مستقبلاً فى حياتى سوى فى عواصم الثلج والضباب مثل موسكو ولندن.

كان لا بد من البقاء فى المعسكر بعض الوقت. سئلت عن السلاح الذى أحب أن أخدم فيه. كنت الوحيد فى دفعتى الذى طلبت سلاح الخدمات الطبية. لأن كل الذين يجندون فى معسكر تجنيد الإسكندرية من شباب قريتي. يطلبون سلاحاً واحداً: البحرية. التى تضمن لهم أن تكون مدة الخدمة فى الإسكندرية.

كان عليَّ الانتظار حتى يتجمع من الدفعة ما يكفى لتحرك مندوب معنا إلى مصر. حيث يوجد معسكر الأساس للخدمات الطبية. وكان مكانه منطقة كوبرى القبة. كنا قد وزعنا على أسلحة كثيرة. الوحيدون الذين لا يرحلون خارج الإسكندرية. هم مجندو البحرية. لأن معسكر أساس سلاح البحرية فى الإسكندرية.

كنا نقضى الوقت فى الكلام عن الأسلحة التى وزعنا عليها. وكان المعسكر واسعاً. مساحة لا نهائية من الفضاء والفراغ. وفى الليل نسمح صوت الرياح القادمة من البحر. صوتها أعلى من عواء الذئاب فى قريتي. كانوا يعايروننى بالسلاح الذى اخترت الخدمة فيه. كانوا يقولون عنه سلاح «الكعب العالى». نسبة إلى أن الممرضات يعملن به. ويحسدوننى على ذلك.

كان من الصعب عليَّ أن أشرح الحكاية. أن أقول لماذا اخترت هذا السلاح بالتحديد؟ لم يكن الأمر اعتباطياً. كان هدفى اختيار سلاح يمكننى من الخدمة بالقاهرة حتى أقترب من حلم حياتي. أن أحيا فى أقرب مكان للأوساط الثقافية. أن أعرف هذا الواقع عن قرب. أن أطابق الصورة الذهنية لأدباء القاهرة. مع صورتهم على الواقع. ولهذا سعيت وفعلت كل ما أقدر على فعله حتى أكون فى سلاح الخدمات الطبية.

وحدتى العسكرية كانت فى كوبرى القبة. فى أقرب مكان للقصر الجمهوري. حيث مكتب عبد الناصر. وأقرب مكان لمنشية البكري. حيث منزله. وأكثر من مرة شاهدت سيارته فى الذهاب والعودة. الذهاب يكون صباحاً والعودة وقت الظهر. ما بقى فى الذهن بساطة الموكب. إن كان من الجائز وصف ما كنت أراه بالموكب.

كنا نركب الأوتوبيس لباب الحديد من محطة قريبة من مسجد كان يتم بناؤه فى المنطقة. وهو المسجد الذى دفن فيه عبد الناصر بعد استشهاده فى سبتمبر سنة 1970.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف