يوسف القعيد
أم كلثوم التى لم يعرفها أحد
أربعون عاماً مرت على رحيلها وما زالت هى الحقيقة - ربما الوحيدة - المؤكدة فى دنيا الطرب والغناء. لكن رقم السنوات الذى مر علينا بعد رحيلها يعنى أن كل مصرى وعربى ومسلم أكمل الأربعين من عمره لم يرها ولم يستمع إليها مباشرة ولم يتعامل مع حكايتها عن قرب. فما بالك بالأجيال التى ولدت بعد الجيل الذى أكمل الأربعين من عمره هذه الأيام. لذلك قد يبدو مهماً أن نستمع لشهادات من عاصروها. واقتربوا منها. وكانت بينهم وبينها حكايات.
تلك رؤية عن قرب. ربما كانت شديدة القرب بأم كلثوم الإنسانة قبل المطربة. والإنسانة هى التى تخفت وراء المطربة ولم يعرف عنها أحد الكثير حتى لمن عاصروها واقتربوا منها وربما كتبوا عنها كتباً ومقالات كثيرة. فصاحب الحكايات هو الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى كان فى نقطة الجوهر بالنسبة لما جرى منذ ستينيات القرن الماضى وحتى الآن.
تحدث الأستاذ عن أم كلثوم التى لم يعرفها أحد. لقد تعامل الجميع مع النجمة الكبيرة. لكن المعرفة الحقيقية بها كانت من الأمور الغائبة. تستطيع أن تقول إنها قرأت الشعر. وأمضت سنوات عمرها الأولى ترتل القرآن الكريم والتواشيح القديمة. حفظت القرآن الكريم، وقرأت السيرة النبوية، ودواوين شعر كثيرة حتى تختار ما يمكن أن تغنيه، وساعدها مثقفون فى المقدمة منهم أحمد رامى.
- ولكنها لم تقترب من شوقى أشعر الشعراء، فى الفترة التى غنت فيها القصائد الشعرية؟!
غنت له فى حياته: سلوا كئوس الطِلا. رآها شوقى فى سهرة رفضت فيها الاقتراب من الشراب، ويبدو أن ذلك لم يعجبه. فى اليوم التالى ذهب إليها وقدم لها القصيدة، التى تبدأ: سلوا كئوس الطِلا.. هل لامست فاهاً. وبعد ذلك مات شوقى. لقد تكلمت أم كلثوم مع شوقى مرتين أو ثلاثة، ولكن أحمد رامى كان رفيق عمر دائما لها. وإن كانت أم كلثوم قد قدمت لشوقى خدمة ضخمة جداً بما قدمته من قصائده بعد وفاته. ابتداء من سلوا قلبى غداة سلا وتابا، وولد الهدى، وغيرها من الروائع.
قلت: كان أحمد رامى عاشقاً لها. صدرت فى باريس رواية عن حالة العشق، تحولت لعرض مسرحى، ثم ترجمت للعربية وعنوانها: كان حلماً من خيال فهوى!.
لم يكن مجرد عاشق من طرف واحد. كان معلماً ومثقفاً. أم كلثوم شافت وتعرضت لأناس كثيرين بحكم عملها. كانت موجودة وسط صحفيين، مثقفين، ناس من الدرجة الأولى. أم كلثوم تعرضت ثقافياً لمؤثرات أولية، بدءاً من المؤثرات التقليدية وأولها ترتيل القرآن الكريم، وكانت لها تجربة عريضة فى الحياة.
مثلاً كانت تذهب إلى طبيبها الخاص، فيقول بعض الأمور عن المستشفيات والأوضاع التى فيها والعلاج والحلول المطلوبة؛ فتتكلم مع الرئيس حول الأمر وتناقشه فيه. وكانت تلتقى أقرباءها من الريف وتسمع عن الهموم وترى بعض المشاكل وتعود من البلد، وعندها ما تريد قوله عن قريتها وعن الريف عموماً، فتقوله للرئيس.
كانت تتكلم معه باحترام والحواجز موجودة وقائمة، وهذه الحواجز لم تكن مفروضة أو مطلوبة من الذين يذهبون للقاء عبد الناصر، خاصة الذين عرفوه بعد أن أصبح زعيماً، بمعنى أنه لم تكن هناك تعليمات عند سكرتارية الرئيس، تطلب من الذين يقابلونه أن يعاملوا الرئيس بطريقة محددة، وأن يتكلموا وفق إيقاع معين، لا السكرتارية كانت تفعل هذا ولا رجال البروتوكول، ومع هذا كنت تشعر أن الحواجز موجودة. إنها حواجز ذاتية ناتجة عن حالة الكاريزما التى كانت تشكل هالة حول عبد الناصر.
- بدأت علاقة أم كلثوم مع رجال يوليو بحادثة غريبة، عندما منع رجال يوليو إذاعة أغانيها بحجة أنها غنت لفاروق فى العهد البائد؟!
فتحى رضوان خطر له ذلك، كمجرد فعل عفوى. وجمال عبد الناصر أوقف هذا الكلام بمجرد علمه به. أم كلثوم كانت قد غنت للملك فاروق فى اليوم الذى منحها فيه نيشان الكمال. ما زلت أذكر هذا اليوم جيداً. كانت من المفروض أن تغنى فى النادى الأهلى، وكان صديقك العزيز ضاحكاً فكرى أباظة الذى كان من مجانين أم كلثوم، موجوداً فى النادى الأهلى فى هذه المناسبة.
وأم كلثوم كانت تذهب إلى النادى الأهلى من أجل خاطر فكرى أباظة. كانت عندها صداقات غريبة فى حياتها. كانت هى وحدها التى تعرف السبب فيها وسر حرصها عليها. المرة التى غنت فيها أم كلثوم للملك، كانت قد ذهبت للغناء فى النادى الأهلى. وغنت أغنية: الليلة عيد ع الدنيا سعيد. عز وتمجيد. وانت حبيبى.
- الأغنية التى عنوانها: حبيبى يسعد أوقاته؟!
القصة الداخلية للقصة. إن مصطفى أمين قال لكريم ثابت إن أم كلثوم ستغنى فى النادى الأهلى. وستصبح عملية لها مردود شعبى هائل، لو حضر الملك ومنحها وسام الكمال. أم كلثوم كانت ستغنى فى النادى الأهلى بصورة طبيعية. وجرى ترتيب الأمور. ثم ذهب الملك إلى النادى الأهلى. ودخل الملك أثناء الغناء. أم كلثوم غنت: عز وتمجيد. تسلم وتدوم. وبدلاً من أن تقول: وانت حبيبى، قالت: وانت مليكى.
- ولكن أم كلثوم كانت تعرف مُسبقاً أنها ستحصل فى هذا الحفل على نيشان الكمال؟!
فعلاً، كان فكرى أباظة قد أبلغها بذلك مسبقاً، ويومها جاءت بأحمد رامى، وهو الذى غير وانت حبيبى لتصبح وانت مليكى. إن الفارق بين أم كلثوم وعبد الوهاب كبير. لم يحدث أن أم كلثوم غنت للإنجليز. عبد الوهاب غنى للإنجليز وربما بالضرورة، وأنا استمعت إلى هذه الأغنية مرات كثيرة. وهى قصيدة أحمد شوقى التى يقول فيها:
أعلـــى الممالــــــك ما كُـرســــــــيه المـــــــــــــــــــــــاء/ ومـــــا ســـــياســـــته بالحـــــــــــق شَــــــــــــــــــــــــــــــمَّاء/ يا جــــيرة المانـــــــش حلاكـــــــــــــم أوبتكـــــــــــــم/ مـــــــا لـــــــــم يطــوف بــه الآبــــــاء أبنــــــــــــاء
وهى قصيدة قالها أحمد شوقى عن إنجلترا فى الحرب العالمية الأولى. وهذه الأغنية عملتها الإذاعة المصرية التى كان يديرها سعيد باشا لطفى. وأظنه كان صاحب اقتراح غناء القصيدة. وقبول عبد الوهاب غناءها لا يؤثر فى مكانته، ولا تصح محاكمة عمالقة الفن بمعايير السياسة ومتغيراتها.