جلال امين
ماذا سيفعل بنا البريد الإلكترونى؟
فى مذكرات الاقتصادى الأمريكى الشهير جون كينيث جالبريث j. k. Galbrait ذكر أنه عندما كان سفيرا للولايات المتحدة وقابل الزعيم الهندى نهرو، قال له نهرو، بنبرة يختلط فيها المزاح بالجد، إن الاختراعين الوحيدين فى رأيه، اللذين أخذتهما الهند من الحضارة الغربية، ويحب نهرو أن يستبقيهما، هما العجلة واللمبة الكهربائية!
قد نختلف مع نهرو فيما نحب أن نستبقيه أو نتركه من منتجات الحضارة الحديثة، ولكنى لابد أن أعترف أنى أشعر بتعاطف شديد مع نهرو (ومع غاندى من قبله) فى شكوكهما القوية حول هذه الحضارة، وفيما إذا كان كثير من مخترعات هذه الحضارة ضرره أكبر من نفعه.
إنى أفضل القطار على السيارة، والتليفون الثابت على المحمول، ولا أكاد أشاهد التليفزيون، وظللت أقاوم البريد الإلكترونى حتى فرضته جامعتى علىٌ، وألا فقدت أهم طريقة لديها للاتصال بى.
إنى أقر وأعترف بقوة الحجة المضادة لهذا الموقف، وهى أن موقف العداء للمخترعات الجديدة، موقف قديم جدا، ويتكرر فى كل مرة يظهر فيها اختراع جديد، حتى يألفه الناس ثم يتحول فى نظرهم إلى شىء من ضروريات الحياة، لقد عادى البعض المطبعة (عند اختراعها فى منتصف القرن الخامس عشر) وقالوا إن نسخ الكتب باليد أفضل وأوجب، ثم ظهر معادون للآلة البخارية فى أواخر القرن الثامن عشر وحاولوا تحطيمها، وكذلك معادون للقطار ثم السيارة ثم الطائرة...الخ نعم هذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضا أن الشىء إذا زاد على حده انقلب إلى ضده، وأن تطورا تكنولوجيا معينا قد لا يكون ضرره كبيرا، فإذا تمادينا فيه قد يصبح شيئا لا يطاق. وقد عبر أحد الكتاب الكارهين مثلى لكثير من مظاهر الحياة الحديثة عن هذا المعنى تعبيرا طريفا بقوله إن الشخص يسقط من أعلى عمارة شاهقة تتكون من مائة دور، قد يظل سليما طوال الأدوار التسعة والتسعين العليا، ولا يصبح جثة هامدة حتى يصطدم بالأرض.
لابد أن نعترف أيضا بأن الإنسان لديه ميل طبيعي وقوي جدا إلى الترحيب بأى اختراع جديد من شأنه أن يجعل طريقة إشباع حاجاته أسهل وأسرع وأقل عناء.
إن هذا الميل موجود لدى الحيوان أيضا، وهو الذى جعل الإنسان يلجأ إلى طهو اللحم بالنار بدلا من أكله نيئا، واستمر إلى اليوم الذى اكتشف فيه أن التواصل مع الناس بالبريد الالكترونى أسهل وأسرع من كتابة الخطابات التى يحملها ساعى البريد ولكن من المؤكد أيضا أنه خلال هذا التطور، من الأصعب والأكثر مشقة إلى الأسهل والأقل عناء، تغير الإنسان نفسه ولايزال. فكما أن الإنسان هو مخترع هذه الأدوات الحديثة فإنه أيضا نتاجها. الإنسان الذى يعيش الآن على اللحم المطهو بالنار له أسنان تختلف عن أسنان الإنسان الذى كان يأكل اللحم النيئ فهل نستطيع أن نقول أيضا أن الإنسان الذى يتواصل مع غيره عن طريق البريد الالكترونى هو إنسان مختلف (أو سيصبح عاجلا أو أجلا مختلفا) عما كان عندما كان يكتب الخطابات باليد على ورق، ويضعها فى مظاريف، ويرسلها عن طريق ساعى البريد؟
لايزال البعض منا بلا شك، متذكرين كيف كان استقبال الناس للبريد، منذ ثلاثين أو أربعين عاما، عندما كان يأتى عن طريق ساعى البريد الذى يسير على قدميه، ويطرق البيوت بيتا بيتا. كنا نحتفل بوصول خطاب باسمنا وكأنه حادث مهم، ونفتح الخطاب بلهفة بل قد نشعر بالسرور بأن يرانا أحد ونحن نتسلم خطابا باسمنا نزال نشعر بمثل هذا الفرح وهذه اللهفة إزاء البريد الالكترونى، ولكن مع بعض الفوارق المهمة فالذى كان يجىء به ساعد البريد مرة كل يوم أو كل أسبوع، أصبح يتوقع مجيئه فى كل لحظة من لحظات النهار أو الليل، كما تحول سرورنا بوصول البريد إلى شىء أقرب إلى الإدمان، نذهب للبحث عنه على فترات تزداد قصرا مع مرور الوقت. أما الشعور بأننا أشخاص مهمون إذ يرانا الناس ونحن نتسلم خطابا بأسمنا فقد تحول إلى زهو خفى إذ يرانا من حولنا ونحن نضغط أزرارا بسرعة ومهارة وكأننا نمارس بعض أعمال السحر.
يبدو أن الفرح بالبريد (من النوع القديم أو الجديد) يستند إلى رغبة دفينة لدينا كلما رأينا شيئا مغلقا فى أن نقوم بفتحه، وكذلك إلى حاجتنا الدفينة إلى التواصل مع الناس إن قدرتنا على تحمل الوحدة يبدو أنها محدودة للغاية، ووصول البريد من أى نوع (مثل رنة جرس التليفون) يثير لدينا الأمل فى أننا سنظفر بشكل أو آخر بهذا التواصل وقد جاء لنا البريد الالكترونى بوسيلة لتحقيق هذا التواصل مؤهلة فى سهولتها وسرعتها وقلة تكاليفها، فلا عجب أن ننشر استخدام البريد الإلكترونى لهذه الدرجة بين مختلف الشعوب والطبقات والأعمار، ولكن لدى بهذا الصدد بعض التساؤلات.
مع اعترافنا بحاجتنا القوية إلى التواصل مع الآخرين هل نحن فى حاجة حقا إلى التواصل مع الآخرين بهذه الدرجة؟
ألا يحتاج المرء أيضا إلى حد أدنى من الانفراد بنفسه والبعد عن الناس؟
ثم فلنتأمل التغير الذى طرأ على نوع الرسائل التى نتلقاها بالبريد الالكترونى. إن معظمها الآن من هيئات أو شركات أو بائعين لا رغبة لدينا على الاطلاق فى أن نتلقى منهم أى رسالة أو أن نسمع عنهم أى خبر. والرسائل الآن ترسل بالمئات (أم هى بالآلاف؟) بنفس النص الينا جميعا مع اختلاف مشاربنا وحاجاتنا. ما فائدة التهنئة بالعيد مثلا إذا كنت تعرف أن هذا الذى يهنئك يرسل الرسالة نفسها وفى الوقت نفسه إلى مئات غيرك دون حتى أن يذكر أسمك (وربما لا يعرفك أصلا إلا باعتبارك عميله العزيز!) لمجرد أنه وجد من السهل أن يفعل ذلك بالضغط على بعض الأزرار؟
بل حتى فيما يتعلق بالرسائل الالكترونية التى نتلقاها من أقرب الناس الينا. نعم نحن يهمنا أن نعرف تفاصيل حياتهم ولكن هل حقا إلى هذه الدرجة؟ أليس هناك بعض المزايا.
لعدم معرفة بعض التفاصيل؟ وللاحتفاظ ببعض الشوق، وأن تبقى بعض التساؤلات دون إجابة؟ بعبارة أخرى: أليس للمعرفة فى هذه الأحوال وغيرها أيضا حدود يستحسن ألا نتجاوزها (مما قد ينطبق عليه المثل الشعبى المعروف: كثرة السلام تقل المعرفة)؟
أعتقد كذلك أننا نبالغ جدا فى قدرة المخ الإنسانى على اكتساب معلومات جديدة والاحتفاظ بها على نحو يحقق دائما الفائدة المرجوة إن أولادى وأحفادى يظنون أن لديهم قدرة فائقة على أن يتلقوا رسائل الكترونية فى الوقت نفسه الذى يقومون به بأعمال أخرى، كتناول الطعام أو الاشتراك فى حديث مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء، بل ربما أيضا أثناء الاستماع إلى درس أو محاضرة والحقيقة أنهم فضلا عما يفقدونه من تواصل مباشر وجها لوجه مع الآخرين يفقدون أشياء أخرى بسبب تزاحم المعلومات والرسائل على قدرتهم الذهنية المحدودة، ألا يمكن أن تكون زيادة القدرة على التنقل السريع بين شخص وآخر، وبين فكرة وأخرى، ومن عمل لآخر، على حساب قدرات أخرى ليس من المؤكد أنها أقل شأنا وأقل استحقاقا للاهتمام إذا كان الأمر كذلك أفليس معناه أننا نتحول بالتدريج إلى كائن آخر؟