ولا تبدو حماس أفضل حالا من عباس، فقد لعبت كثيرا بورقة المقاومة، ثم تركت المقاومة إلي المساومة، وإلي لعبة مزدوجة باتت مفضوحة
سقطت أقنعة الرئيس عباس وحركة حماس معا، ولم يعد لهما جمهور مؤثر في الشارع الفلسطيني، وبدليل ما جري ويجري في وقائع الانتفاضة الجديدة، فقد ذهبت مع الريح دعوات عباس إلي وقف التصعيد، وبدت كدخان يطير في الهواء، بينما لم تشارك سوي مئات قليلة في مظاهرات دعت إليها حركة حماس في غزة والضفة الغربية، وارتد الاستعراض بالخيبة علي حماس، والتي حاولت ركوب موجة الغضب، واستثمرت يوم الجمعة بصلواته ومساجده الممتلئة في العادة، لكنها لم تجد أحدا خارجها يبتلع الطعم، وبدت مظاهراتها شاحبة فقيرة في مدن الضفة بالذات، في حين لم يستجب أحد لنداء حماس في القدس المحتلة.
ترك الفلسطينيون عباس يغني وحده، ويفتح «سنترال» اتصالاته مع وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ويتسول لقاء مع نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، وعلي أمل تعويم سلطته الغارقة، والإيهام بالعودة إلي مفاوضات عبثية، وهو ما تبدو إسرائيل مشغولة عنه بالمواجهة الدموية مع شباب انتفاضة السكاكين، فهي ـ أي إسرائيل ـ تعرف حدود قدرة عباس، وأنه لا يملك من أمره شيئا، ومجرد «خيال مآتة»، ويلعب في الوقت الضائع، وبعد أن انتهي دوره المرسوم في تفريغ الكفاح الفلسطيني من مضمونه، وتدجين حركة فتح، وإغراق كوادرها بالامتيازات المالية المسروقة من المعونات، والتكفير بالمقاومة المسلحة وخط التحرير الوطني، والتحذير من عواقب انتفاضة الفلسطينيين، وملء فراغ الوقت باتصالات وتحركات لا جدوي منها، وبينها اللجوء إلي الأمم المتحدة، وطلب الحماية الدولية للفلسطينيين، وعباس يعرف يقينا استحالة وجود هذه الحماية، ويعرف رفض إسرائيل لها، ويدرك حقيقة الفيتو الأمريكي الجاهز دائما لخدمة إسرائيل، لكنه ـ أي عباس ـ يريد الإيحاء بأنه يفعل شيئا والسلام، ويصدر تصريحات مهينة للانتفاضة وشبابها، ومن نوع إعلانه رفض ما تصفه إسرائيل بعمليات الإرهاب الفلسطيني، وكأنه يريد كسب عطف الأمريكيين والإسرائيليين، وعلي حساب شهداء ودماء الفلسطينيين التي تسيل أنهارا، وتلهب حماس وغضب المنتفضين البواسل، بينما عباس ضائع في المتاهة، ويغرد خارج السرب الفلسطيني، ولا يفكر في التوبة عما تقدم من ذنوبه وما تأخر، ولا في الاستقالة من منصبه الهزلي، وإعلان حل «دولة أوسلو» التي أذلت الفلسطينيين، وزورت قضيتهم، وحولتها من معركة تحرير وطني إلي مساومات بؤس لا ينتهي.
ولا تبدو حماس أفضل حالا من عباس، فقد لعبت كثيرا بورقة المقاومة، ثم تركت المقاومة إلي المساومة، وإلي لعبة مزدوجة باتت مفضوحة، فهي تعارض عباس، وتسلك مثله في ذات الوقت، وإن اختلفت الطرق، لا تتذكر المقاومة إلا بصورة موسمية جدا، وبالذات مع دورات العدوان الإسرائيلي المتكرر علي دويلتها في غزة، وتتفرغ في باقي الوقت لجلب مليارات قطر وأخواتها، وإقامة جسور اتصال مع الإسرائيليين عبر قطر وتركيا ودولة أوروبية، وبهدف التوصل لأوسلو أخري تخص حماس، وتضمن هدنة طويلة مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي قد تصل إلي ربع قرن مقبل، وهو ما يفسر قمعها المحسوس لأي تحرك مسلح ينطلق من غزة، وحرصها علي كسب ثقة إسرائيل ورضاها، ومحاولة لجم تطور الانتفاضة الحالية، وادعاء حضور مفتعل في صفوفها بما يفيد في المساومة، وهو ما دفع حماس إلي الإعلان عن مظاهرات فيما أسمته «يوم الغضب»، لم يستجب لها الناس الذين كشفوا الخديعة، واقتصرت علي مئات معدودة من عناصر «حماس» وأصدقائها، وبدا الانكشاف الشعبي مثيرا، وكاشفا لعمق أزمة الحركة الإخوانية التي فقدت مصداقيتها في عموم أقطار العرب، ووضعت حماس في المأزق أمام جماهير مليونية كانت لها زمان.
وقد كشفت الانتفاضة عن حيوية جيل فلسطيني جديد، ظن البعض أنه نسي قضية وطنه المحتل بتقادم الزمن وتوالي الخيبات، وبترويض شعوره تحت سلطة أوسلو، ومحاولات إقناعه أنه لا فائدة من المقاومة، وأن قوة الاحتلال الإسرائيلي لا تقهر، وأنه لا بديل عن العيش في المذلة وانتظار المعونات، لكن الجيل الجديد اكتشف طريقه بنفسه، ومن قلب المعاناة اليومية في القدس ومدن الضفة، ومن صنوف الإذلال المتصل علي حواجز جنود الاحتلال، ومن عجرفة وصلف ووحشية قطعان المستوطنين اليهود، وتهويد القدس وتقويض المسجد الأقصي، وتجريف الأراضي وطرد السكان وهدم البيوت بالبلدوزرات، وحصار المدن والقري بأطواق المستوطنات المسلحة، وعرف الجيل الجديد أن كل هذا الجبروت يمكن هزيمته، وأن الشعب الفلسطيني لن يخسر في المواجهة سوي قيوده، وتقدم الشبان والشابات في سن العشرين ـ وما تحتها ـ إلي حرب من نوع مختلف، وبما ملكت الأيدي من حجارة الأرض وسكاكين المطابخ، ونشروا الفزع المهلك في قلوب الإسرائيليين، واستقبلوا بالصدور العارية رصاصات العدو، وكلما ارتقي شهيد أو شهيدة، زادت جذوة الغضب اشتعالا، وزادت ثقة جيل الكفاح الفلسطيني الجديد في جدوي ثورته، والتي أطاحت بأوهام الاستسلام والمستسلمين، وكشفت عورات الفصائل المتسلطة علي حركة الشعب الفلسطيني، والتي بليت أساليبها المعتادة، وضاعت في «حسبة برما» بين المقاومة والمساومة، وغامت مخيلة قادتها وكوادرها، وعجزت عن التواصل مع أجيال الغضب الفلسطيني الجديدة، والتي لا تعرف لها أبا وأما سوي فلسطين المثقلة بأحزانها، والتي تستطيع النهوض مجددا، بطلاقة خيال أجيالها الجديدة، وبأساليب تعبئة متجاوبة مع إيقاع العصر، تستنفر القوة الكامنة لملايين الشعب الفلسطيني المرابط فوق أرضه المقدسة، فقد أصبح عدد الفلسطينيين الآن أكبر من عدد اليهود في فلسطين المحتلة بأكملها، فوق أن الفلسطينيين أكثر الشعوب العربية تعليما ووعيا، وبوسع غلبتهم العددية أن تتحول إلي غلبة كفاحية، تسترد حقوقهم كاملة بغير حاجة إلي تسول سلام لا يأتي.
نعم، لاعباس ولاحماس في الموضوع، والشعب الفلسطيني هو الحقيقة الصلبة الباقية، وبوسع أجياله الجديدة المقتحمة أن تهزم العنصربة النازية الإسرائيلية، وأن تستعيد الروح العفية لأحلام التحرير.