جمعتنا "المساء" في أجمل أيام الستينيات. الراعي عبدالفتاح الجمل. والمريدون كثر: جمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وروضة سليم وسيد حجاب وصبحي الشاروني وعطيات الأبنودي ومحمد كامل القليوبي ومصطفي الأسمر وحافظ رجب وسامي خشبة ومحسن يونس وفتحي فرغلي وصبري حافظ وعبدالرحمن الأبنودي وعشرات غيرهم شكلت إبداعاتهم تكوينات المشهد البانورامي لتلك الفترة. بما أضاف قيمة حقيقية إلي المشروع القومي العظيم الذي كان قواما للحياة المصرية.
أحببت قاهرة نجيب محفوظ. الجمالية بشوارعها وميادينها ومساجدها وأزقتها ومقاهيها ومتصوفتها وفتواتها. النماذج والتفصيلات الصغيرة التي مزج فيها الفنان بين بساطة الواقع وفجاجته. وبين خيال المبدع. فتعرفنا إلي أسرة أحمد عبدالجواد. وأهل زقاق المدق. وفرار أحمد عاكف إلي خان الخليلي فرارا من الغارات المرتقبة علي السكاكيني.
ترددت بعد قراءة طويلة ألزمت بها نفسي. في الكتابة عن بحري. العالم المذهل الذي طالعتنا به روائع محفوظ في بين القصرين وزقاق المدق والسكرية وقصر الشوق وخلاء الدراسة. فرض ما يشبه المستحيل في محاولة الكتابة بما يقارب ابداع محفوظ عن الجمالية. وذات أصيل. صحبت المستشرق الفرنسي المعروف الأب جاك جومييه الذي أحب الجمالية في كتابات محفوظ قرأنا لافتة تشير الي درب الطبلاوي. تذكرت انه الدرب الذي يقيم فيه جمال الغيطاني. زرناه بلا موعد سابق. ولا استئذان. رحب بنا بحفاوة مصري طيب. وقال رداً علي ملاحظتي بتكرار العبارات في الأوراق الكثيرة أمامه: أنا أعاود نسخ القصة بحذف واضافات ربما الي النسخة العاشرة. حتي أطمئن اليها فأضع القلم.
عبر جمال الغيطاني عن الجمالية. الحي الذي نشأ فيه. وأحبه. بدا متفردا في تأمل المشهد القاهري. وفي التعبير عنه بإبداعات جميلة. تؤكد ان الفنان الحقيقي يعبر عن خصوصية لا تقلد. ويصعب تقليدها. أحببت الجمالية في ابداع الغيطاني بمذاق يختلف عن ابداع محفوظ. لكن المغايرة الحقيقية. والجميلة. جعلته في موضع متقدم بين مبدعي الستينيات. احببت ابداع الغيطاني. وجدت فيه ـ كما وجدت في ابداعات محفوظ وهمنجواي وادريس والشاروني وعبدالحكيم قاسم والخراط وحافظ رجب وغيرهم ـ حافزا للكتابة عن بحري الذي أحببته. كما أحببت الجمالية في كتابات محفوظ والغيطاني.
آخر لقاءاتنا في مدينة الشارقة. شارك كل منا في ندوة الآخر. تأكيدا علي ان اخفاق الصائدين في الماء العكر لا يتحقق الا بالمصارحة واعتبار الصداقة قيمة غالية يجب ان نحرص عليها.
أفتقد في غياب جمال الغيطاني مبدعا نادر القيمة. وصديقا غاليا.