الوطن
ثروت الخرباوى
أمير الرواية.. قد أتيت مبايعاً
يلح علىّ خاطر لا يفارقنى، يدعونى بفعل أمر هو «أن اُكتُب»، اكتُب عن كل شىء، اكتب عن كل ما رأيته، لا تتوقف عن الكتابة، واجعل آخر ما تفعله فى الدنيا هو كلمة تربط حروفها وتنمق معناها، لا يهمك أن يكون ما رأيته فى حياتك حسناً أو سيئاً، ولا يهمك أن يكون من تكتب عنه شيطاناً أو ملاكاً، فالكتابة نفسها فعل نورانى فريد، إنك تكتب لتنير الطريق، تكتب لتنشر المعرفة، وفى الوقت ذاته ينتفض من داخلى إنسان خفى لا يراه أحد، يحذّرنى قائلاً: إن إبليس كان دائماً ضد المعرفة، وسيجند أتباعه ضدك، ألا تتذكر يوم أن علّم الله أباك آدم الأسماء كلها، كان الله قد أعطاه المعرفة فحاول إبليس أن يضله عن طريق الجهل، فألقى فى روعه أن الشجرة المحرمة هى شجرة الملك والخلد، ولو استبصر آدم المعرفة التى بين يديه لعرف أنه فى تلك الجنة خالد، كما أنه هو المَلكُ فيها.

يقول الإنسان الخفى فى داخلى اكتب عن الأفكار، واكتب عن البشر الذين يحملون الأفكار، اكتب عن رجال النور واكتب أيضاً عن رجال الظلام، وكما كتبتَ من قبل عن شياطين الإخوان، فإنك أيضاً كتبت عن رموز مصرية فريدة، لم أقبل أبداً أن تظل كتاباتى عن الشخصيات التى عرفتها حبيسة فى أسوار الإخوان، فمصر كلها من حقها أن تعرف رموزاً حملت مشاعل الحضارة، وتقدمت فى موكب المبدعين، وأظن أن مقالتى قبل السابقة كانت عن نمط من رجال النور، سميتهم «مصابيح القضاء» وكان النموذج الذى تحدثت عنه هو المستشار خالد محجوب.

الآن يجب أن أكتب عن مصباح من مصابيح المحاماة والأدب، هو أحد عباقرة المحاماة، وأحد الفلتات التاريخية فى الرواية العربية المبدع الأستاذ «أحمد صبرى أبوالفتوح».. شاء قدر الله أن أتقابل معه منذ خمسة عشر عاماً فى إحدى القضايا التى كانت تُنظر أمام أحد القضاة المتشددين، كانت القضية شائكة متشابكة، كان أحمد صبرى يترافع عن أحد المتهمين، وأنا أترافع عن متهم آخر فى ذات القضية، وكان أن تعارفنا قبل جلسة المرافعة، وقتئذ كان ترتيبه فى المرافعة يسبقنى فجلست أستمع إليه، فإذا به يترافع بلغة عربية فصيحة صحيحة طيّعة سلسة، وكان متدفقاً فى مرافعته شيّقاً فى أدائه، حصيفاً فى دفاعه، يهدأ فى موضع الهدوء وكأنه لا يعرف الغضب أبداً، ويثور فى موضع الغضب وكأنه لا يعرف الهدوء أبداً! يدخل فى دروب القضية دخول أستاذ القانون الفقيه وكأنما أوتى من كل علم سبباً، وبعد مرافعته رفعت المحكمة الجلسة للاستراحة فقمت من مكانى أحتضنه وأقبل رأسه فلطالما اشتاقت أذنى لمرافعة قانونية مبدعة، ذلك أن الإبداع فى قاعات المحاكم أصبح نادراً قلّما يجود به المبدعون، أو قل توارى الإبداع حزناً على وفاة عبقرى المرافعة المرحوم عاطف الحسينى الذى لم تنجب المحاماة فى مصر مثله عبر تاريخها!

وبعد سبع سنوات تقابلت مرة أخرى مع أحمد صبرى فى قضية نقابية سياسية، لكن الوضع كان مختلفاً هذه المرة حيث كنا نترافع عن خصمين مختلفين وكان هو فى جانب وكنت أنا فى الجانب الآخر وهكذا هى المحاماة، واشتبكنا فى جلسة المرافعة، بدأ هو الاشتباك فى حدة وهو يبتسم لى من طرف خفى، وقاطعته ثائراً وأنا أبتسم له ابتسامة العيون، وللعيون لغتها، وبعد المرافعة احتضننى ضاحكاً وتبادلنا أرقام الهواتف لعل الصلة تتوثق بيننا.

لم أكن قد قرأت لأحمد صبرى أبوالفتوح من قبل، ولم أكن أعلم أنه من الكاتبين، وحين وقعت عينى على مقالات متفرقة فى بعض الصحف لكاتب يدعى أحمد صبرى أبوالفتوح قلت فى نفسى لعله غيره فمن النادر أن يبزغ أحد النجوم مرتين فى آن واحد، مرة فى الكتابة ومرة فى فنون الإلقاء والمرافعة والخطابة.. إلى أن وقعت الواقعة وعرفت أن أحمد صبرى له رواية من عدة أجزاء اسمها ملحمة السراسوة، تحكى من خلال عائلته «السرسى» عن تاريخ مصر فى حقبة المماليك السابقة على حكم الوالى محمد على والفترات التى تلت ذلك إلى أن وصلنا إلى أيامنا هذه، وكان أن اقتنيت أجزاء الرواية التى صدرت إلا أننى كنت أهاب قراءتها لسبب لا أعلمه! وكأننى أقدم على القراءة للمرة الأولى فى حياتى.. هل يجوز للناقد أن يحكى لكم مشاعره حين قرأ، نعم يجوز فالمشاعر يمتلكها صاحبها ومن حقه ألا يبوح بها إلا إذا كتب عن العمل الذى أثار مشاعره وحينئذ يصبح المكتوم مباحاً.

وبدأت فى قراءة الرواية، وكان الندم، نعم كان الندم، ندمت على أننى ظللت محتفظاً بهذه الرواية لأشهر دون أن أقرأها، وقلت لنفسى: يا لك من منكود لقد حرمت نفسك من متعة ما بعدها متعة، وبعد أن انتهيت منها كتبت عنها وأنا فى قمة الانبهار وكأننى «أليس فى بلاد العجائب» وبعد أن انتهيت منها أدركت أننى أمام كاتب يمتلك حرفية فائقة وإتقاناً مذهلاً، فهو يكتب الجزء من ملحمته كرواية متكاملة الأركان لا تتساند على جزء آخر، ولكن إذا قرأ القارئ الجزء الآخر أدرك اكتمال البناء الدرامى، فالجزء من الرواية بهذه المثابة كامل وناقص فى آن واحد، كامل بذاته وناقص بغيره، والحقيقة وعلى حد علمى أنا لم أقرأ من قبل مثل هذا البناء الروائى والتماسك الدرامى، وحين أمسكت قلمى ذات يوم لأكتب عن «صبرى» وملحمته وجدتنى مفتوناً بما كتب، ويبدو أننى وقعت فى «غواية السراسوة» حتى إن من قرأ ما كتبته عنها ظننى مبالغاً، فقرأ بعضهم الرواية من باب التحدى فإذا بهم يقعون مثلى فى غوايتها! وإلى الآن لا أعرف هل صدر الجزء الخامس والأخير من هذه الرواية أم لم يصدر بعد، ولكن كان من روعة الأحداث التى مرت علىّ فى حياتى أن أرسله لى أحمد صبرى وهو مسودة لأبدى رأيى فيه، ويا الله، أيوَدّ العمالقة أصحاب العبقريات النادرة أن يعرفوا رأى القارئ العادى مثلى؟! «ملحمة السراسوة» ليست رواية لكنها دنيا قائمة بذاتها، كتبها صاحبها فى لحظة مسروقة من الزمن، إى وربى، ما كتب أحمد صبرى روايته إلا بعد أن سرق من الدنيا زمناً ما، ثم أوقفه مكانه، ثم أخذ يحيك روايته على مهل، ثم قال للزمن وقد خبر أسراره «اذهب بروايتى إلى الدنيا كى تكون عنواناً لنهضة أدبية مصرية حقيقية».

ليس هذا أحمد صبرى أبوالفتوح الذى أعرفه والذى ولد فى بدايات الخمسينات من القرن الماضى، لكنه هو عائش الدهر الذى أتى إلينا من قرون ماضية ليقص لنا قصة لا يمكن أن ينساها الزمن، حكى لنا «صبرى» عمّا مر بمصر من نكبات فى عصور قديمة، صوّر الواقع المصرى آنذاك بدقة مذهلة لم يفعلها أحد من قبل، هذا حكىٌ لا يستطيعه إلا من عاش فى تلك الحقب، ولكَ يا أحمد صبرى أن تعلم أن مثلى تعلم منك كثيراً، فأنت بلا منازع أحد أمهر المحامين الجنائيين فى مصر حالياً، أفتخر بك وأسعد بنجاحاتك التى هى إضافة لمصر، كما أنك إمام الروائيين المصريين حالياً رغم أحقاد الحاقدين التى تقابلك فى كل حين، وسننتظر أن تطل علينا بشبكة نورانية جديدة، وإنا لمنتظرون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف