د. قدرى حفنى
التدين الهش والتدين المطمئن (4)
لم يعمر عصر التدين المطمئن طويلا؛ فلم يلبث أن أخذت الهشاشة تنخر فى بنيانه شيئا فشيئا حتى طفت على السطح وكانت لها السيادة ولعلها ما زالت كذلك.
إن تلك النقلة من تديننا المطمئن إلى ذلك التدين الهش لم تحدث بين عشية وضحاها، بل عبر سنوات طوال انتقلنا فيها من المناقشة الحرة لمن يعلن إلحاده إلى التفتيش فى النوايا الخفية و المقاصد الكامنة وراء كتب أولاد حارتنا ووليمة لأعشاب البحر وكتابات نصر أبوزيد وتحول تعبيرنا عن غيرتنا على عقائدنا من الحوار والتفنيد إلى القتل والتدمير والخلط بين قداسة رسالة السماء الإلهية وتقديس تاريخ دنيوى صنعه وسجله بشر؛ بحيث أمكن تبرير قتل فرج فودة الذى كان كل ما كتبه محاولة إعادة قراءة لتاريخ المسلمين مع تمسكه الشديد بنفى تهمة الإلحاد عن نفسه، وتبرير الاعتداء على الروائى نجيب محفوظ؛ واشعال المظاهرات العنيفة احتجاجا على رواية وليمة لأعشاب البحر؛ عبورا بحرق كنائس وتهجير مسيحيين إلى آخره، وصولا إلى انتخاب ممثل جماعة الإخوان المسلمين للسلطة فى 30 يونيه 2012.
لا شك أن ماجرى فى 30 يونيو 2013 وضع حدا لمزيد من «أسلمة» الدولة إذا صح التعبير؛ ولكن الأمر لم يكن أبدا مقصورا على الدولة؛ بل كانت جذوره أعمق من ذلك بكثير؛ ولعلها ترجع إلى سنوات قليلة بعد انحسار الحقبة الليبرالية القصيرة بهزيمة 1948 وبداية حقبة 23 يوليو 1952.
كان عبدالناصر زعيما مصريا حريصا حرص العسكرية المصرية عبر تاريخها الطويل على حماية حدود مصر السياسية التى تمت استعادتها بعد سقوط الخلافة العثمانية؛ وكان على معرفة وثيقة بجماعة الإخوان المسلمين، ولم يجد بأسا من الاعتماد عليها لتدعيم الثورة فى البداية؛ إلا أن حرص الجماعة على الاحتفاظ بتنظيمها المستقل كان فيما يبدو بداية نذر انتهاء شهر العسل القصير بين ثورة يوليو وجماعة الإخوان المسلمين بمواجهات دامية بدأت عام 1954 واستمرت حتى رحيل عبدالناصر.
وكان من الطبيعى أن يواجه عبدالناصر أصواتا إسلامية تتهمه بالعلمانية والخروج على الإسلام؛ ولم يكن من جانبه راغبا ولا مستطيعا أن يحذو حذو أتاتورك الذى قطع الصلة تماما بين الدولة والدين، خاصة وهو يشهد تململ ذلك المسار وإخفاق ورثة أتاتورك فى أول انتخابات ديمقراطية تشهدها تركيا بعد ما يقرب من ربع القرن على إنهاء الخلافة والأخذ بالعلمانية؛ ففى عام 1950 فاز الحزب الديمقراطى المنافس، وتولى رئاسة الوزراء عدنان مندريس الذى أخذ على عاتقه تخفيف الطابع العلمانى والعودة شيئا فشيئا إلى التراث العثمانى الإسلامي، ولعلنا نذكر واقعة طرد عبد الناصر لسفير تركيا فؤاد طوغاى فى يناير 1954 لتطاوله وتطاول الحكومة التركية برئاسة عدنان مندريس على ثورة يوليو، ولسنا على أى حال بصدد تتبع ما جرى لتركيا بعد ذلك؛ فما يعنينا فى هذا الصدد هو اختيارات مصر الناصرية المتهمة بالعلمانية.
لم يكن أمام عبدالناصر والأمر كذلك سوى نفى تلك التهمة تماما؛ مؤكدا أن كل قرارات ثورة يوليو من التأميم إلى حل الأحزاب إلى محاكمات الإخوان المسلمين لا تتعارض مع صحيح الإسلام؛ وقامت أجهزة الإعلام آنذاك بإنعاش ذاكرتنا بأقوال ومواقف لأبى ذر الغفارى و على بن أبى طالب ووقائع حروب الخوارج إلى آخره، كما تم إنشاء إذاعة القرآن الكريم 29 مارس 1964 بحيث أصبح للمواطن لو شاء أن يقتصر على الاستماع إلى القرآن الكريم والمواد الدينية طيلة الوقت.
أما على الجانب المؤسسى فقد تم فى عصر عبدالناصر إلى جانب العديد من المعاهد الأزهرية بناء عشرة آلاف مسجد، وهو - فيما يقال - يعادل عدد المساجد التى بنيت فى مصر منذ الفتح الإسلامي، و فى مجال التعليم قامت الدولة وللمرة الأولى منذ إنشاء جامعة القاهرة بتكريس مؤسسات تعليمية حكومية تتيح الفصل بين الإناث والذكور فأنشئت كلية البنات عام 1956 التى تطورت فيما بعد لتصبح كلية البنات للآداب والعلوم والتربية التى تضم 7 أقسام علمية و 8 أقسام أدبية و 4 أقسام تربوية، كما تم عام 1961 ما يعرف بتطوير الأزهر حيث أضيف إلى كلياته التقليدية الأزهرية التى تدرس علوم الدين الشرعية ما يطلق عليه الكليات المدنية مثل: الطب والهندسة والعلوم والزراعة والتجارة والتربية... إلخ مع الحرص بطبيعة الحال على الفصل بين الطلبة والطالبات؛ وبذلك أتاحت الدولة لمن شاء لبناته أن يستكملن دراساتهن حتى درجة الدكتوراه بعيدا عن الذكور؛ وتحت مظلة تطوير الأزهر أيضا أنشأ عبدالناصر مدينة البعوث الإسلامية التى كان ومازال يدرس فيها مجانا عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين من سبعين دولة إسلامية ويقيمون إقامة كاملة فى المدينة الجامعية، و أنشأ عبد الناصر عام 1960 المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية الذى حل محل هيئة كبار العلماء؛ وشهدنا تنظيم مسابقات تحفيظ القرآن الكريم التى كان عبدالناصر يوزع بنفسه جوائزها.
لقد أقام عبدالناصر لحماية مشروعه الوطنى من تهمة الزيغ عن الدين جدارا سميكا من الفكر الدينى والمؤسسات الدينية التى كان عبدالناصر يرى فى نفسه ضامنا لوسطيتها تحت مظلة الدولة.
وتوالت الأحداث لتهتز الناصرية تحت وطأة هزيمة 1967، ونجد أنفسنا فى ظل ثقافة الهزيمة نلتمس تفسيرا دينيا لما جري؛ وكان المناخ جاهزا مؤسسيا وفكريا؛ وما أن رحل عبدالناصر وتولى السادات الذى وجد المسرح السياسى مستعدا لتقبل شعار دولة العلم والإيمان.
ولعل لحديثنا بقية