عندما كتبت الجزء الأول من هذا المقال قبل أسبوعين، تلقيت ردود أفعال كثيرة، كل منها راح فى زاوية، هناك من ألحّ على معرفة المصرى العبقرى الذى رصد المشهد بقدر من البساطة والدقة، وهناك من استحسن الفكرة ورأى أنها تستحق الوقوف عندها، وهناك من قال إن هذه طريقة ملائمة لنقل نبض ناس لا يلتفت لهم بعض المسئولين والسياسيين والإعلاميين.
وهو ما شجعنى على استكمال فضفضة أو تحذيرات المصرى الحزين للمرة الثانية، الذى بث حزنه الشديد أخيرا، على ضوء قراءته مؤشرات ودلالات المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية.
الواضح أن النتائج التى تمخضت عنها هذه المرحلة متنوعة ومليئة بالعبر، وسبقنى زملاء كثيرون بتحليل جوانب مختلفة ومهمة منها، لكن سأركز على خطاب ما سماه صاحبنا الحزين «حزب تجميل الرئيس»، أى الجماعة التى كرست جهدها لإعفاء رئيس الجمهورية من أى مسئولية سياسية أو أخلاقية، عما ظهر من دروس فى هذه الانتخابات، ولم يهتم هؤلاء بتفسير الأسباب الحقيقية التى أدت إلى ابتعاد قطاع كبير من المصريين عن المشاركة، والتى مرجح تكرارها بقسوة فى جولة الإعادة بعد أيام قليلة، وفى المرحلة الثانية من الانتخابات الشهر المقبل والتى تضم 13 محافظة .
صاحبنا الحزين تعجب من اختزال الرئيس أحيانا مشكلات مصر فى توفير الأمن، وقال هو مسألة حيوية لا أحد ينكرها، ونجح فى تحقيق هذا الهدف، وسط تحديات مخيفة، لكن الأمن وحده ليس المعضلة الرئيسية، فالمصريون أدلوا بأصواتهم بكثافة فى فترات أشد صعوبة بعد ثورة يناير، وكانوا على ثقة أن الشرذمة الإرهابية لن تستمر طويلا، لذلك يجب الالتفات إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الذين أصابهم الضجر من الزيادة الرهيبة فى الأسعار، واستمرار التفاوت الطبقى فى كثير من التعاملات اليومية.
مع ذلك هناك من يطالبون بمزيد من التقشف وتحمل زيادات أخرى متوقعة، بل مواصلة ربط الأحزمة على البطون، دون أن يقدم أى مسئول بارقة أمل لهم على تغير أوضاعهم قريبا، فى حين انخرط أعضاء الحزب إياه فى الحديث عن مشروعات عملاقة، إذا جادت بثمارها فبعد سنوات طويلة، وتأكيد أن شعبية الرئيس لا تزال فى عنان السماء، ومن حاولوا التشكيك فيها زمرة الخونة والمرتشين والعملاء.
ليس كل من ينتقد أداء الرئيس عميلا أو خائنا، هكذا باغتنى صاحبنا، ثم قال، من يزيف الحقائق، ويخدع الناس، ويتعمد التضليل والتطبيل، ويصور أن الدنيا وردى فى مصر، أحق بهذه النوعية من الصفات، لأننا يمكن أن نصحو ذات يوم على كوارث أكبر، تتجاوز حدود الإحباط الذى ظهرت ملامحه باقتدار، عبر انخفاض نسبة المشاركة فى انتخابات مجلس النواب، فما حدث عرض لأمراض مزمنة، يحاول كثيرون تجاوزها، أو التغطية عليها، ويكررون على مسامعنا الأسطوانة المشروخة، هذا عميل للإخوان يردد كلامهم، وذاك شاب يتلقى أموالا من الخارج ويريد تخريب البلاد، وهؤلاء لديهم قناعات ثورية بهدم الدولة.
نعم قد يكون بيننا من يتصف بهذه الصفات، لكن اختزال من ينتقد ويصحح فى هؤلاء فقط، إخلال بالواقع وطقوسه الطبيعية، فهناك وطنيون وشرفاء ممتعضون من الأداء العام، قرروا الانزواء، خشية أن تصيبهم هذه السهام، التى يتمسك بإشهارها الحزب إياه، لأنها ضمانة لبقاء أصحابه على مسافة قريبة من ذوى السلطان والنفوذ.
المشكلة التى تحير المصرى الحزين، لماذا يصمت الرئيس على فريق معروف بالنفاق، تخصص منذ فترة فى تجميل صورته، بالحق والباطل، مع أن ذلك يضر به وسط الجماهير العريضة التى خرجت لدعمه وتأييده واختياره، لاسيما أن المواطن البسيط لا يعرف سواه لمصارحته عندما يأتى وقت الحساب ؟
الأيام الماضية أثبتت صحة هذا التقدير، فالكل كان يتحدث صراحة أو ضمنا، عن انخفاض شعبيته، خاصة أنه ناشد المصريين بالحشد والتصويت بكثافة فى الانتخابات، ولم تكن النتيجة على المستوى المطلوب، فبدا كأن العزوف رسالة له شخصيا، بينما هناك أسباب متعددة تقف خلف مقاطعة البعض، وهنا تعجب صاحبنا ممن أشاروا عليه بإلقاء خطاب عشية الانتخابات، فالمفترض أن لديهم تقديرات دقيقة لما يدور فى الشارع، وأن أجواء يونيو ويوليو 2013 مختلفة تماما عن أجواء أكتوبر 2015، فقد وضع الرئيس نفسه فى اختبار لم يكن بحاجة للاستفتاء عليه.
صاحبنا قال اعذرنى على الصراحة، لكن هذا ما أشعر به كمتابع ومهموم بشأن هذا البلد، وهو شعور ملايين غيري، قد يكون صحيحا أو خاطئا، لكن فى النهاية يعبر عن نبض الناس المهمشين، الذين مازالوا منتظرين خطوات كبيرة من الرئيس، تخفف أوجاعهم الاقتصادية وأمراضهم الاجتماعية، وعلى استعداد لمزيد من التحمل، لكن عدم اطمئنانهم لتحقيق العدالة أصبح يقلقهم، مع وجود طبقة تتضخم بشكل مخيف من رجال الأعمال، ومن لف لفهم من الإعلاميين والسياسيين لخدمة مصالحهم، وربما تزداد طمعا وتغولا، حيث تشير النتائج الأولية للانتخابات إلى حصول عدد من مرشحيهم على مقاعد كثيرة فى البرلمان، بما يسمح لهم بالدفاع عن عدم المساس بالمكاسب التى حصلوا عليها طوال السنوات الماضية.
كان صاحبنا يتحدث وإحدى يديه ترتجف عندما جاء على ذكر رجال الأعمال، أو ما سماه كريمة المجتمع، لأن كل شيء فى مصر تغير تقريبا إلا هؤلاء ازدادوا نفوذا وتوحشا، والكل يعلم أن عددا منهم تضخمت ثرواته عن طريق تسقيع الأراضي، عقب الاستحواذ عليها بتراب الفلوس، وقد تكون العدالة الناجزة فى هذه النقطة واحدة من المحكات الرئيسية، التى يمكن أن تعيد الطمأنينة والثقة للناس، وهو اختبار صعب، لكن فى النهاية يحمل بشارة على تمسك الرئيس بانحيازه المعلن للبسطاء، والقيمة هنا سياسية وليست مادية، لأن استمرار تعليق يافطة عدم الاقتراب التى يتفاخر بها البعض فى جلساتهم الخاصة، أضحى من الصعوبة السكوت عنها.
تركت صديقى الحزين، وتمحصت كلامه، ووجدت أنه يستحق الكتابة والقراءة السياسية، فقد مس جروحا عميقة، يصعب أن تترك لحالها، بعد أن تراكم الصدأ فوقها، لذلك لخصتها فى السطور السابقة، ولا أعلم هل سأعود إليه مرة أخرى أم لا، بعد أن خصنى بمكاشفات مؤلمة متمنياإذاإلتقيته أن أراه متفائلا؟