ونحن صغار كانوا يقولون لنا إن مصر تتميز بشتاء ممطر دافيء.. وتغير المناخ وأصبح الشتاء ممطرًا باردًا جدا.. والصيف حار رطب وليس جافا.. هذا في الجغرافيا أما في الواقع السياسي بعد المرحلة الأولي للانتخابات البرلمانية فقد كتبت عدة صحف اجنبية ان الدول العربية وفي مقدمتها مصر ستبدأ شتاء باردًا قد يكون طويلا جدا..!!
وهذا الكلام ليس صادقا بنسبة 100% بل نصفه الأول فقط وهو أنه بداية الشتاء حقا لكنه سيكون شتاء دافئا إن شاء الله لماذا؟ لعدة أسباب واضحة وهي:
أولاً: نسبة الاقبال الضعيفة في الانتخابات البرلمانية ليست جديدة علي مصر.. وقد كشف حقيقة ضعف الاقبال النزاهة والشفافية في الانتخابات.. فقد كان التزوير بل و"التشويه" لبعض المرشحين الحكوميين قبل 2011 يتم علنا وكان التدخل الحكومي سافرا.. ومعلوما لكن ما حدث في هذه الانتخابات وبشهادة كل المتابعين الأجانب والمحليين هي انتخابات نزيهة ولم يتدخل أحد فيها..!!
ثانيًا: الغياب الجماهيري عن هذه الانتخابات وان كان امرا سلبيا للغاية إلا أنه له ما يبرره وله دلالاته الواضحة.
ولابد أن نعترف انه لا وجه للمقارنة بين أول انتخابات بعد ثورة يناير 2011 وهذه الانتخابات.. لعدة أسباب الأول ان الرشاوي الانتخابية التي كان يقوم بها الإخوان والسلفيون غابت هذه المرة.. والسبب الثاني هو الزخم السياسي الغائب لأن طبقة كبيرة من الشعب اختارت السيسي رئيسا وفوضته بالنيابة عنها فعادت إلي الكنبة من جديد والسبب الثالث وهو الأهم أن معظم المرشحين غير معروفين أو مرتبطين بالحزب الوطني المنحل.. فعزف الكثيرون عن المشاركة رفضا للمرشح وليس رفضا للانتخابات بدليل ان هذه الانتخابات بالذات شهدت أعلي نسبة من الأصوات الباطلة في أي انتخابات برلمانية سابقة.
صحيح ان الغياب سلبي حتي ان شبكات التواصل الاجتماعي جعلته مادة للسخرية ونقلت عنها نيويورك تايمز حوارًا مع رئيس نادي القضاة عندما سئل عن انتهاكات ومخالفات حدثت فقال: لا توجد انتهاكات ولا توجد تجاوزات.. ولا يوجد حتي ناخبين..!!
نسبة المشاركة تراوحت بين 20 و25% وهي ضئيلة إذا قيست بالانتخابات السابقة لها ولكنها طبيعية ومتقاربة مع انتخابات عديدة في مصر من قبل.. فالشعب لا يقبل علي الانتخابات إلا عندما يشعر بالأهمية كاقباله علي أول برلمان بعد الثورة.. أو انتخابات الرئاسة واختياره للسيسي رئيسا أو للموافقة علي الدستور الأخير.
ثالثًا: لا توجد قوي سياسية حقيقية في مصر ولا يوجد حزب سياسي قوي يستطيع أن يملأ الفراغ السياسي.. وهذه حقيقة لابد أن نعترف بها.. والحقيقة الثانية هي ان شخص الرئيس عبدالفتاح السيسي ملأ بنفسه فراغا سياسيا لذلك كان هناك جدل كبير حول: هل يكون للرئيس السيسي حزب يعبر عنه ويكون ظهيرا سياسيا أم أن الرئيس باعتباره رئيس كل المصريين يجب أن ينأي بنفسه عن الحزبية والأحزاب؟ وكان الرأي الثاني هو الأرجح.. لكن من يتابع نتائج المرحلة الأولي ويجد ان قائمة "في حب مصر" التي تكاد تكون هي الأقرب للرئيس وفكره قد حظيت بالأغلبية الساحقة في حرب القوائم.. يتأكد من أن الفراغ السياسي لم يكن فقط بسبب غياب الأحزاب الفاعلة في الشارع بل أيضا لأن شعبية الرئيس السيسي ملأت جزءًا كبيرًا من هذا الفراغ بلا ظهير سياسي..!!
ومن هنا نجد ان الفراغ السياسي في مصر لن يبدأ من القمة.. أو بتحب سياسة تعيش وكأنها في أبراج بعيدًا عن الشعب وعن الشارع بل لابد أن تبدأ أحزاب سياسية يقودها الشباب وبخبرة الكبار من الشارع لتقود الحياة السياسية مستقبلا.. واعتقد أن هذا هو أول درس للانتخابات يجعل الشتاء القادم دافئا وليس باردًا.
رابعًا: المستقلون.. ومن هم يرفضون الأحزاب القائمة.. أو خرجوا عنها يمثلون حوالي 70% من الإعادة بينما وضح ان هناك أحزابا ليس لها وجود في الشارع أو علي الاقل في الانتخابات التي تمت في الجولة الأولي وهو ما يؤكد ما سبق أن قلته في هذا المكان من أن في مصر ثلاثة أحزاب رئيسية وهي الحزب الديني الذي فقد بريقه واصابه طعنات إرهابية لأنه فشل ديمقراطيا وفشل في ايجاد صيغة سياسية حقيقية لأسباب عديدة ليس هنا مجالها.. والحزب الثاني هو حزب المصالح ورجال الأعمال وهو الوريث الطبيعي للاتحاد الاشتراكي ثم حزب مصر ثم الحزب الوطني ولكن ملامحه لم تتحدد في كيان ولكنها في أشخاص قبلية عائلية غنية أو مدعومة من الأثرياء وأصحاب النفوذ والمطامع.. والحزب الثالث هو حزب الكنبة الشبابي.. الذي لم يجد نفسه بعد ولم ينجح أحد في الاقتراب منه أو الاستفادة من طاقته فيما عدا ذلك فإنها أحزاب ورقية تطير مع أي زوبعة في هذا الشتاء ولذلك فإن الحل المنطقي هو انضمام كثير من هذه الأحزاب في كيانات جديدة تعبر عن مصالحها بعيدا عن زعامات ورقية تبحث عن دور بلا وظيفة حقيقية..!!
خامسًا: من الطبيعي أن تكون الإعادة في الفردي حوالي 98% ولا عيب في ذلك لأن عدد المرشحين كان كبيرا في كل دائرة ناهيك عن اتساع بعض الدوائر لدرجة تجعل من العملية الانتخابية وحسن الاختيار عملية صعبة ومعقدة.
الأهم من ذلك ان معظم المرشحين في الفردي غير معروفين أو منتمين لعائلات مرتبطة بقوة بالحزب الوطني المنحل.. مما أسهم في عدم خروج الناس لاختيارهم وبالتالي لم يحصل أحد منهم علي الأغلبية المطلقة وكان طبيعيا ان تتم الإعادة علي هذا الكم في الانتخابات ولكن لابد أن نعترف ان هناك مفاجآت لم تكن متوقعة في بعض الدوائر حيث خرج من السباق عائلات كبيرة كان لها باع طويل في الانتخابات طوال الخمسين عاما الماضية.. كما أن غياب الشباب كان واضحا في هذه الجولة.
سادسًا: هزيمة السلفيين وغياب أحزاب تاريخية مثل الوفد أو أحزاب اليسار المصري بشكل عام وتراجع المصريين الأحرار الواضح في الإعادة.. يطرح عدة تساؤلات مثل: هل تغير مزاج الشارع المصري أم أن بعض الإعلاميين نجحوا في مواجهتهم للسلفيين؟
إذا كانوا نجحوا في مواجهتهم للسلفيين فهل لم يوجهوا سهام الانتقاد لليسار سواء كانوا ناصريين أو اشتراكيين.. وكان هناك دعم إعلامي للمصريين الأحرار علي الأقل بواسطة الإعلام الخاص صحفا وفضائيا.. فماذا حدث؟.
إذا كان هناك تخوف من أي تيار ديني لارتباطه بالإخوان بشكل ما.. فإن الحرب ضد السلفيين بدأت من داخلهم أولا: فهناك من رفض الحزبية والتحزب بل ان علماء سلفيين اعتبروا الحزبية حرامًا.. وفي المقابل هناك آخرون ينظرون إلي إخوانهم في الإرهابية باعجاب ويرون ان مقاطعة الانتخابات قرار صائب ولصالحهم.. وهناك المجموعة الفاعلة التي تري أن الحرب الإعلامية ضدهم هي السبب وتجاهلت عزوف كثير من الشباب السلفي عن السياسة بسبب الإخوان وعودتهم إلي الدعوة والعبادات باعتبارها الأقرب إلي عمل السلف الصالح..!!
أما اليسار فهو منذ 2011 مازال يبحث عن نفسه ولم يعد له دور في الشارع بل اصبح معظم قادته والنخبة حالات فرعية خاصة جدا.. يبقي بعض أحزاب رجال الأعمال الكبار وتخوف الشارع من تأثير المال السياسي مما جعل هناك حالة سلبية ضدهم بشكل عام علي الأقل من المثقفين والمتعلمين وبقايا الطبقة المتوسطة.
سابعًا: كل هذه الملاحظات حول الانتخابات في جولتها الأولي تؤكد أن هناك حراكا سياسيا ستشهده مصر مع البرلمان الجديد.. وليس سببه البرلمان نفسه أو النواب بل سيكون نابعا من الشارع وبعض النخبة الذين سينضمون للشارع وللصالح العام بارادتهم وقناعتهم وسيكون الحراك السياسي فاعلا مما يمنح الشتاء القادم دفئًا كبيرا يعوض ما حدث في برودة عملية الاقبال علي الانتخابات.. والسبب الرئيسي في ذلك هو المشروعات الكبري التي تقبل عليها مصر بثقة برغم المصاعب الاقتصادية الكبيرة إلي جانب ان نزاهة وشفافية الانتخابات ستعيدنا إلي أجواء عام 1976 التي شهدت أيضا انتخابات نزيهة جدا نتج عنها حراكا سياسيا من خلال المنابر ثم الأحزاب وظهور قيادات سياسية معارضة مثل ممتاز نصار ومحمود القاضي ومحمد حلمي مراد وكمال أحمد وغيرهم رحم الله من توفي منهم جميعا.
استبشروا. فالمطر أقصد الخير قادم بغزارة مع الشتاء الذي سيكون دافئًا بإذن الله.