السخرية أكثر طرق التعبير عمقاً، وهى إحدى الملكات التى وهبها الله للمصريين، وإن بالغوا فيها فى أحيان كثيرة، وأساءوا استخدامها فى أحيان أخرى، لكنها تبقى كاشفة لما يفكر فيه الناس ويشعرون به، وتتجلى هذه الملكة على صفحات المصريين على مواقع التواصل الاجتماعى فى المناسبات المختلفة، ومنها الانتخابات البرلمانية الأخيرة، البوست الأكثر انتشاراً على هذه المواقع فى اليوم الثانى للمرحلة الأولى من الانتخابات «أنا قررت أنزل أنتخب النهارده بعد الضهر.. مخنوق وعاوز أقعد لوحدى».
هذه السخرية تُلخص الحالة المصرية فى الجولة الأولى للانتخابات البرلمانية، وفى عدم اللجوء إلى الإيجابية والنزول إلى المقار الانتخابية، فالمصريون لم تنفتح شهيتهم للنزول، ولم تحركهم رغبة المشاركة، وفى ذلك دلالات مهمة وكثيرة، ربما يكون أولها فشل الأحزاب بجدارة، ونجاح حزب الكنبة الذى فضل البقاء وعدم المشاركة، ففكرة القائمة فكرة فاشلة، وبالتالى جاءت النتيجة تعلن أن كل الصخب السياسى الموجود فى مصر لا قيمة له على الإطلاق، وأن عزوف المصريين يؤكد أنه لا يوجد حزب أو تيار سياسى له قيمة أو تأثير أو يمتلك القدرة على حشد أنصار مرشحيه.
عزوف الناس عن الانتخاب أكبر دليل على الفراغ والفشل السياسى للأحزاب والتيارات والتحالفات التى تجاوزت السبعين، فهذه الأحزاب بتحالفاتها وقوائمها التى فشلت فى الوصول إلى الناس كتبت شهادة وفاة رسمية لها. أما المرشح الفردى، وهو النسبة الأكبر فى مقاعد البرلمان فمجمل هذه النوعية مضروبة، وأغلب الأسماء تتراوح بين ناس مجهولة الهوية والمصدر لم تستطِع الإعلانات -التى اكتفوا بها فى لافتات الشوارع وزادتها قبحاً- وضع تعريف محدد لأغلب المرشحين، وبالتالى كانوا شخصيات لا محل لها من الاعراب، فهم نكرة، بعضهم مهاويس البحث عن دور أو باحث ومتطلع للوجاهة والنفوذ أو نوع ردىء تسبقه سمعته، التى لم يستطِع غسلها، وبالتالى فلا يوجد دافع لدى الناس لتكرار تجربة مريرة معه ومنحه فرصة أخرى. وكان هناك نوع آخر من المرشحين هم من يسمونهم تيار الإسلام السياسى، فاستثمار الإسلام كان له عائد ضخم، لكن أغلبية ملحوظة اكتشفت هؤلاء ورفضتهم بطرق مختلفة وشُفيت من مرض الانخداع فيهم. وعلى الجانب الآخر، هناك تقصير من الناخبين، فلم يكن هناك فضول أو رغبة أو نوايا إيجابية لمعرفة الأفضل فى هذه الكثرة العددية، وبالتالى كانت السلبية واللامبالاة هما رد فعل أغلب الناس. ودخول الناس نفق السلبية واللامبالاة هو المؤشر الأكثر خطورة، لأنهم اعتبروا أنفسهم خارج هذه اللعبة وليسوا طرفاً فيها، أو غير مقتنعين بها، وبالتأكيد لا يرون أن لديهم مصلحة فى وجود هؤلاء الناس فى صدارة البرلمان.
السلبية واللامبالاة كارثة كبرى
تأجيل الانتخابات أكثر من مرة أفقدها صفة الجدية والثقة، فى أنها سوف تحدث فعلاً، وبالتالى لم تأخذها الناس بالجدية الكافية.
العزوف عن النزول يقول بشكل أو بآخر إن الإرادة السياسية لم تنجح فى نقل أهمية هذا البرلمان وخطورته للناس، ورغم التأكيدات على هذه الكارثة فإن الرسالة لم تصل أو لم تقنع الناس بها، أو رأى البعض أن هناك اتجاهات معينة وربما أسماء بعينها هى التى ستصل ليس عن طريق التزوير، ولكن لأنها الأقرب إلى تفكير الإرادة السياسية.
وربما كانت شدة التخويف من هذا البرلمان جاءت بنتيجة عكسية لدى الناس، فكان ردهم هو العناد وعدم المشاركة فى لعبة إبعاد الفزاعة، وتركوا الدولة تبعدها بمعرفتها، وهذا مؤشر شديد الخطورة والرعب، ولربما الأخطر منه أن عدم الأقبال يؤكد أن الحماس والاقتناع بما تفعله الإرادة السياسية انخفض وهجه كثيراً، وأن الخطاب الوجدانى من جانب الإرادة السياسية وخطاب الشحن من جانب الإعلام لم يعد يلاقى استجابات قوية، وبالتالى لم يعد كافياً، ولا بد أن يندمج معه خطاب عقلى.
هذه الدلالات والمؤشرات لا بد أن تكون رسالة قوية لكل أجهزة الدولة والرئيس، ولا بد أن يقف أمامها طويلاً بتحليل عميق واستخلاص النتائج والتعامل معها بجدية حقيقية، فعدم الجدية والعمق يعنى أننا نفضل النقش على الماء وليس لدينا إرادة أو مقدرة النقش على الحجر..