الوطن
محمد حبيب
قضايا محورية
هناك قضايا محورية لا بد من التعرض لها والإشارة إليها فى مقدمة هذه الدراسة، على اعتبار أنها تمثل المعايير الأساسية التى يمكن القياس عليها، وإلا تصبح عملية التقويم خاضعة للهوى، أو فاقدة للموضوعية.. لذا، يجب أن تكون هذه المعايير ثوابت غير مختلف عليها من ناحية، وأن تكون كاملة وشاملة وتمثل قواعد ضرورية ولازمة لنجاح الفرد والجماعة من ناحية أخرى.. وأعتقد أن هذا هو المنهج العلمى الصحيح.. فى تصورى، تشمل هذه القضايا المحورية؛ قضايا فكرية، قضايا أخلاقية، قضايا حركية ومنهجية، وقضايا مرتبطة بالشورى والمؤسسية.. وغنى عن البيان أن هذه القضايا يجب أن تأخذ حظها ونصيبها من الاهتمام - بل من الالتزام الدائم والمستمر - من الفرد والجماعة، ليس فى مرحلة دون أخرى، لكن فى كل المراحل.. إن من الضرورى أن تسير القضايا المحورية جنباً إلى جنب فى خطوط متوازية، حيث يكمل بعضها بعضاً.. لقد رأينا بعض الجماعات تهتم بقضية أو قضيتين أو حتى ثلاث قضايا، وتترك أو تهمل بقية القضايا، فإذا بها تفشل فى مرحلة من مراحل عملها، أو لا تستطيع أن تكمل صعودها نحو أهدافها.. حتى جماعة الإخوان التى تمكنت من الوصول إلى قمة هرم السلطة فى مصر، لم تصمد طويلاً.. لم تستطع أن تحتفظ بما فى يدها لأكثر من عام واحد فقط.. لماذا؟ لأنها أغفلت - أو تغافلت - عن قضايا محورية مهمة، وكانت النتيجة هى السقوط، بل السقوط المدوى، ومعه سقطت أشياء كثيرة مهمة..

إن الجماعة الواعية هى التى تحدد أهدافها بدقة ووضوح، ولديها القدرات والإمكانات (المعنوية والمادية) وأيضاً الوسائل والأدوات اللازمة التى تعينها على تحقيق هذه الأهداف.. وهى التى تختار الظروف السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية الأكثر مناسبة وملاءمة للبدء فى السير نحو الأهداف، وهى التى تتمتع - قيادة وأفراداً - بالارتباط القوى فيما بينها، فضلاً عن الهمة العالية والاستعداد للبذل والتضحية بالوقت والمال والجهد.. إن الجماعة الواعية لا تتعجل الوصول إلى أهدافها، وتعمل على التثبت - عند كل مرحلة - من أنها لم تغفل قضية من القضايا المحورية السابق ذكرها، أو أنها لم تعرها الاهتمام الواجب.. بل هى تتثبت مع كل خطوة تخطوها فى أى مرحلة، من أنها استكملت عناصرها، وأنها تمضى بثبات على الطريق الصحيح.. وإذا حدث أن اكتشفت خللاً أو قصوراً ما، عادت لتستدرك هذا الخلل أو القصور وتصحح ما وقع من قبل أن تواصل السير إلى المرحلة التى تليها.. وهكذا فى كل خطوة أو مرحلة.. للأسف، هناك بعض الجماعات لديها ثقة زائدة بنفسها أو الاعتقاد بأنها الأفضل فكراً، وفهماً، وحركة، وتنظيماً، وحشداً.. الخ، وتتصور أنه ليس مهماً أن تمضى فى طريقها دون الالتزام بالقضايا المحورية أو ببعضها، أو أنها قادرة على تحقيق أهدافها بالتحايل والالتفاف عليها، وهكذا.. هذه الجماعات سرعان ما تتقوض من داخلها وتنهار من أساسها، لأنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح..

أولاً: القضايا الفكرية:

من القضايا الفكرية المهمة التى سوف نعرض لها؛ قضايا: الإسلام والفكر الإسلامى، التكفير، الديمقراطية، الوطن والمواطنة، الخلافة، والعلمانية، وغيرها.. عن القضية الأولى، أقصد قضية الإسلام والفكر الإسلامى، والفرق بينهما، يقول «الريسونى» فى كتابه «الفكر الإسلامى وقضايانا السياسية المعاصرة»، وتحت عنوان «الإسلام والفكر الإسلامى»: «أعنى بالإسلام؛ ١- القرآن الكريم، و٢- ما صح من السنة النبوية، فكل سنة نبوية اتفق أهل الاختصاص على صحة ثبوتها، فهى إسلام، وهى من الإسلام، وكل ما اختلفوا فى تصحيحه، فهو فى محل النظر والاجتهاد، ولا يُلزِم إلا القائلين بصحته، ومن اطمأنوا إلى تصحيحهم».. ثم يعود فيقول مؤكداً: «وأعنى بالإسلام: ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة الصحيحة، من المعانى والأحكام، ومن المقاصد والقواعد، دلالة صريحة وواضحة.. وفى مقدمة ذلك ما وقع عليه الإجماع، ثم ما اتفقت عليه المذاهب الإسلامية المتبعة، واستقر عندها على مر العصور.. وما سوى هذا من اختلاف وأخذ ورد، فهى اجتهادات وآراء وترشيحات، تقدر وتحترم بقدر حجتها ووجاهتها، ولكنها تخضع للمراجعة والتمحيص، ويؤخذ منها ويُرد، أياً كان أصحابها، وأياً كان مقامهم وعددهم.. وأما الفكر الإسلامى، فأعنى به كل الاجتهادات والإنتاجات والإبداعات الفكرية، التى تلتزم بالإسلام مصدراً ومرجعاً أساسياً لها.. ويكون الإسلام مصدراً، حين يكون الاجتهاد الفكرى متعلقاً بالاستمداد المباشر من الإسلام، واستنطاق نصوصه ومبادئه، واستخراج حلوله وإجاباته، وتركيب منظوماته ونظرياته، بحسب ما يراه العالم المفكر.. ويكون الإسلام مرجعاً، حين يجتهد الباحث والمفكر، معتمداً على تخصصه وفكره ونظره، مستعيناً بكل الأدوات والمعطيات العلمية المتاحة، لكنه يفعل ذلك كله فى ضوء الإسلام ومقاصده وقواعده وثوابته، فيقبل ما توافق معها، وما لم يتعارض معها، ويرد ما سوى ذلك. فالفكر الإسلامى إذاً، هو جهد بشرى وفكر بشرى من جهة، ولكنه يمتاز بكونه إسلامى الاستمداد والإطار، من جهة أخرى. فهو أيضاً يؤخذ به ويعتمد عليه، على قدر حجته وقوته وفائدته، وعلى قدر تطابقه وتوافقه مع أدلة الشرع، ويُرد منه بقدر ما يكون على خلاف ذلك.. وكما قال الإمام مالك (رحمه الله): «كل واحد يؤخذ من كلامه ويُرد، إلا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهو ما أكده «البنا» فى البند السادس من الأصول العشرين التى وضعها كأساس للفهم».. ثم ينتهى «الريسونى» إلى النتيجة الآتية:

«وعلى العموم، فما يسمى (العلوم الإسلامية) أو (العلوم الشرعية)، من تفاسير وشروح للحديث النبوى، وفقه، وأصول فقه، وفكر صوفى، وفكر فلسفى، ودراسات إسلامية تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية.. يدخل معظم ما فيه تحت مسمى الفكر الإسلامى.. ولا نستطيع أن نجزم بشىء منه على أنه إسلام، أو أنه شريعة إسلامية، إلا ما دلت عليه نصوص الشرع وأصوله، بشكل واضح لا نزاع فيه بين جمهور العلماء»..
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف