د/ شوقى علام
العمل السياسى وسعة الشريعة
جاءت الشريعة حاكمة لحركة الحياة للإنسان، بمنهجية تسع أحوال الناس فى الزمان والمكان إلى قيام الساعة، ونظرت إلى مصالح الناس التى لا تتغير ولا تتبدل مع تغير الزمان والمكان والشخص والحال وأتت من النصوص ما يضبط ويحكم هذا النوع بحيث لا يطرأ عليه الاجتهاد المغير لحكمه، وإنما محل الاجتهاد فيه هو فى تحقيق مناط هذا الحكم فقط، فجريمة القتل والسرقة والزنا والسب والقذف والرشوة والحرابة وأكل مال اليتيم وغيرها، كل ذلك من الجرائم التى لا تُباح فى زمن أو مكان أو لأشخاص مهما تطور الزمن وتغير الحال، لأن المفاسد المترتبة عليها لازمة لها ولا تزول عنها بحال، حتى إن بعض رجال القانون وهو الدكتور على راشد رحمه الله تعالى ذهب إلى أن هذه الجرائم هى جرائم تقليدية مستقرة فى الضمير الإنسانى لا يخلو مكان ولا زمان من النص عليها وتجريم السلوك الذى يؤدى إليها.
ويبقى الاجتهاد بصددها متعلقا بتطبيق النهى الوارد بشأنها على الوقائع الخاصة الجزئية بعد التحقق من الشروط والأسباب وانتفاء الموانع، مما يطلق عليه الفقهاء الحكم الوضعي.
وأما المصالح المتغيرة وفق الزمان والمكان والحال فقد جاءت النصوص الحاكمة لها والضابطة لأحكامها بأحكام تراعى هذا التغير والتطور، فضلا عن الاجتهاد الفقهى فى نظرية الموازنة بين المصالح وتقديم أيها على الأخرى، ولهذا وجدنا أحكامها تختلف من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان ومن حال إلى حال.
والعمل السياسى يدخل نطاقا وممارسة فى القسم الثانى من المصالح، وهو فى مجمله يدور حول الرعاية الأمثل لشئون الناس وإدارة مرافق الدولة وفق منظومة تقويم المصالح المعتبرة شرعا على حسب ضوابط الشرع الشريف من وجوب تولية الأكفأ، والحكم بين الناس بالعدل، وأداء الأمانات إلى أهلها، كما جاء فى القرآن الكريم؛ فقال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ» وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا».
فالسياسة على هذا إنما هى اسم لما يشرع من أدوات وإجراءات لرعاية شئون الأمة فى إطار ضوابط وقيم وأخلاق التشريع، وهذا ما جاء فى فقه المسلمين، وفهمه فقهاؤنا من دلالات النصوص الشرعية وتحقيق مناط المصالح المتعددة الواقعة فى أزمانهم بما أعطى النموذج المعرفى الذى تنبنى عليه القاعدة الحاكمة فى المجال السياسى لكل عصر، وتطور الحياة فيه.
ولا ريب أن هذا النموذج المعرفى فى تطبيقه لتحقيق المناط فى تقويم المصالح والمواقف يحتاج إلى تخصصات عديدة يتوقف عليها فهم الواقع الذى ينبنى عليه فهم الحكم الشرعى فى المسألة، ولهذا قد يختلف هذا الحكم من موقف لآخر وفق المعلومات التى تم الحصول عليها فى كل موضوع على حدة.
ووفق هذا التصور فإن العمل السياسى لا يمكن قصره ولا حصره فى جهة دون غيرها، بل يحتاج إلى جملة من الإجراءات قد تكون معقدة غاية فى التعقيد فى بعض الحالات، ومن ثم فلابد من وجود التكامل بين هيئات وتخصصات وجهات عديدة للقيام فى إصدار القرار السياسى الذى يدخل ضمن العمل السياسي.
وعلى هذا فالحزبية السياسية وهى فى صدد تحديد رؤيتها لحل القضايا المتعلقة بالمجتمع عموما، ومنها القضايا السياسية، لا يعدو الأمر أن يكون مجرد وجهة نظر قد تكون صائبة فى مجملها وقد تحتاج إلى تعديل لبعض هذه الرؤى، بل قد يكون الزمن والمكان والحال قد تجاوز الحلول التى تتبناها، ونحتاج لا إلى تعديل فقط، بل إلى إزالة الرؤية برمتها.
والتشريع الإسلامى يقبل الرؤية الشاملة مادامت لم تتعارض مع مبادئه ومقاصده العامة، لأن العمل السياسى فى أكثره وفى نطاق ممارسته يدخل فى نطاق ما لا نص فيه، وما لا نص فيه يضبطه الاجتهاد الذى يفصح عن المصلحة المحققة التى تنبنى على قواعد علمية وبحوث مستفيضة.
هذا هو النظر الذى نرتضيه ونتبناه فى طرح فكرة العمل السياسى وعلاقة التشريع به، أو علاقته بالدين، ويكون حصر الحل فى رؤية معينة فيه من الإضرار بتحقيق المصلحة نفسها، بل قد تكون الرؤية التى تعرضها الأحزاب التى ترى مرجعية دينية أو غيرها من الأحزاب بمرجعياتها المختلفة، قد تكون خاطئة تماما، فاحتكار المعرفة قد يكون ضارًا بالسير الحثيث نحو جلب المصلحة ودرء المفسدة ودفعها.