الأهرام
عزت السعدنى
شيال الهموم.. يا متولى!
مصلوبا أنا.. واهنا.. مترددا.. حائرا.. أكاد أقع من طولى أمام باب اللجنة الانتخابية التى ذهبت إليها فى يوم قائظ حار.. لكى أنتخب مع أهل مصر كلهم أعضاء مجلس النواب الموقر..

حاولنا مع الواقفين والقاعدين والقادرين المتعافين والواهنين أمثالي.. أن نصنع طابورا انتخابيا.. وأنا معهم.. فلم نجد طابورا.. إلا من بعض العجزة والناقهين والفاقدين لأنفاس الحياة التى تتردد فى الصدور.. وقدمين غير قادرتين على الوقوف والصمود..



طابور النساء على يميننا «براح» كما غنى محمد رشدي.. عشرة من جنس حواء وربما أكثر وربما أقل..

دخلنا اللجنة الانتخابية على مهل.. كأننا فى بهو فندق خمسة نجوم.. هدوء وفراغ وليس فخامة وشياكة.. الكل يرحب بنا.. كأننا أقرباء كانوا على سفر.. أو أصدقاء تفرقت بنا المسالك والممالك..

رحب الموظفون الذين ربما طال انتظارهم لنا.. وقالت لى موظفة عندها من الأولاد خمسة ومعها أمها القعيدة وزوج لا يهش ولا ينش.. يعانى من فشل كلوى مزمن ـ كما قالت لى فيما بعد: والله حضرتك رابع أو خامس واحد للجنتنا هذه.. نورت المكان..

لم تكد تكمل جملتها حتى انتفضت من مكانها وهرعت لتمسك بيدها سيدة تحاول الوصول بثقل وزنها وهم سنوات حياتها وشقى العمر كله إلى حيث تجلس الموظفة التى تعانى فى حياتها ربما أكثر مما تعانى وتكابد.. وتقدم لها كرسيا قائلة: اتفضلى يا خالة.. استريحي.. تعبتى نفسك.. مافيش ولد من ولادك ولا بنت تيجى معاكى تحرسك وتاخد بحسك وتمسك بايدك؟

ردت العجوز المطحونة هما بدموع جفت من زمان فى مقلتيها: والله يا بنتى الولد احتسبته عند الله.. شهيدا من شهداء جنودنا فى سيناء..

أبكتنى وأنا مازلت واقفا خلفها.. هذه الأم التى تحمل فوق ظهرها هم الدنيا بحالها.. وهل هناك هم أكبر من هم فقدان الولد.. الضني.. السند.. قرة العين.. ولم يبق لها فى هذه الدنيا إلا أياما وشهورا تعيشها فى التذكر والتفكر ومحاولة النسيان.

أنقذنى من حيرتى صوت رئيس اللجنة بعد أن تفحص بطاقتى العائلية وهو يقول لي: يا باشا دى موش لجنتك!

خرجت من الطابور الحزين.. وعبرت جسر التنهدات.. وأنا فى طريقى إلى خارج اللجنة.. أبحث عن لجنتى ومقر صوتي..

قال يعنى صوتى ده هو اللى حيجيب الديب من ديله ويعدل حال الجنيه المصرى الذى تدهور حاله وانخرس مواله أمام الدولار العنيد،.. الجبار اللى شادد حيله علينا.. والذى ربما كان السبب فى أن كيلو اللحمة عند الجزار ـ أكرر عند الجزار موش فى الجمعية ـ بثمانين وتسعين جنيه وساعات مية!

هكذا دار هذا الموال فى داخلى وأنا ذاهب أبحث عن لجنتى الانتخابية ليلدغنى فى أذنى سؤال خبيث مثل عقرب خبيث النوايا كثير الخطايا:

ـ يعنى يا باشا أنت عارف قبل ما تفقع المشوار.. مين اللى أنت رايح تنتخبهم فى المجلس الجديد؟

رددت عليه دون صوت: ولا واحد وحياتك ولا عمرى شفتهم ـ موش أنا وبس.. كل الناس اللى معايا ـ ولو حتى فى التليفزيون والفضائيات اللى مليانة عك ولك وضحك على الدقون.. ويمكن كل أهل الدائرة اللى مترشح فيها سيدنا الأفندى المضروب على عينه أو سعادة البيه اللى ما عمرنا شفناه!

صوت داخلى صامت وواعى يهمس لي: ولا عمرهم حيشوفوه.. صدقنى إلا يوم الانتخابات بس.. وبعد ما ينجح قادى وش الضيف.. خمس سنين بحالهم.. لحد ما يظهر لهم مرة ثانية.. بس ايه بقي.. عقبال أملتك.. لابس ومتشيك وراكب عربية اربعتاشر متر والسيجار محشور بين شفايفه.. وبيطلع دخانه فى وش اللى رايح واللى جاي.. وما حدش عارف يكلمه أو حتى يقرب منه خوفا من عدوى ميكروب الفقر.. اللى اتعالج منه واخد حقن الوجاهة والحصانة والنعنشة والفرفشة وشايل معاه شنطة الناس الأكابر اللى زيه السودة اللميع!

.................

.................

ولأن أول درس تعلمته فى حياتى الصحفية من الهرم الرابع للصحافة الذى اسمه الأستاذ محمد حسنين هيكل عندما كنت فتى يافعا مغامرا يتحدى بشبابه واندفاعه العالم كله ويحارب الدنيا كلها.. وأنا أحضر أول اجتماع لمجلس التحرير فى المبنى القديم للأهرام فى شارع مظلوم.. جالسا فى ركن بعيد عن السادة الكبار.. أن أقاتل لكى أعرف الحقيقة.. ولا أستسلم أبدا.. يعنى باختصار أن أتعلم أن أكون حشريا لأعرف.. وإن كانت الكلمة لم تعجب الأستاذ أيامها وقال لي: ايه حشرى دي.. خليك ظريف بمكر ولكن لحوح ومصمم أن تعرف.. وسوف تعرف!

فقد سألت أولا الناخبات اللاتى تركن بيوتهن وأولادهن وليس أزواجهن.. لكى يخطفن رجلهن ـ حسب تعبيرهن ـ لكى يقمن بواجبهن الانتخابي: انتى جاية تنتخبى مين لمجلس النواب؟

قالت واحدة ترتدى طرحة سوداء فوق رأسها وتكشف وجهها: أصل دى عادة لازم آجى أنتخب.. مين والله أنا ما اعرفش حد.. هاسأل قبل ما أخش اللجنة.

وقالت أخرى لم تترك اللبانة من فمها: عشان بس ما ندفعشى غرامة عدم الانتخاب واحنا عمالين ندفع عمال على بطال!

وقالت ثالثة ترتدى تى شيرت أصفر وبنطلون حريمى أخضر: أصل جوزى قالى لازم تروحى يا فكيهة تنتخبى رئيسه فى الشغل مرشح نفسه.. لحسن يستقصده فى الشغل!

سألتها: انتى تعرفيه؟

قالت: ولا عمرى شفته.. ولا سمعت عنه.. لكن أكسَّر ـ بتشديد السين ـ كلام جوزى وهو واقفلى بره اللجنة.. ده كان يكفر عيشتى وعيشة اللى خلفوني!

ولأن أغلب الناخبين قد آثروا السلامة وانشغلوا بأعمالهم وحياتهم عن الانتخابات وسنينها.. فقد خلت اللجنة التى لم أغادرها بعد من صنف الناخبين ولم يبق من صنف البنى آدمين.. إلا الموظفين ومندوبى المرشحين ورجال الأمن..

انزويت أنا فى الظل مع رجل مسن جاء يستند على عكاز آدمى قال لى إنه ابن ابنه التلميذ الذى منحوه أجازة فى مدرسته+ الموظفة المغلوبة على أمرها التى جاءت بأوامر مشددة من زوجها لكى تنتخب قريبه+ إمرأة مسنة تبلبع ـ جاية من بلع يبلبع ـ أدوية السكر والضغط وحالة دوران فى راسها تأتيها عندما تمشى ولو قليلا تحت الشمس الحامية..+ مدرس اعدادى استأذن من حضرة الناظر لكى يدلى بصوته.

................

..................

قال الرجل المسن الذى كان ـ كما قال حفيده بالحرف ـ خوجه قد الدنيا مدرس أول فرنساوى مافيش زيه ودلوقتى على المعاش ـ وهو يلملم الشال الذى على كتفه: أنا عارف حضرتك ـ اللى هو أنا ـ بتحرجم على اجابة السؤال: ليه كثير من الناس مارحتش الانتخابات زى ما حشدت قواها ومدافعها يوم انتخاب الرئيس السيسي؟

لم أتكلم حتى أترك للنهر المتدفق أن ينطلق دون عائق..

قال: شوف يا سيدى بصراحة كده الناس فاض بها الكيل.. الأسعار فى السما السابعة.. كيلو الطماطم بقى بـ 15 جنيه.. وكيلو اللحمة قرب يدخل فى دايرة التسعين جنيه.. وبكره إذا لم نفعل شيئا سوف يجلس على كرسى المائة!

وحيعمل ايه المجلس ـ يقصد مجلس النواب ـ بعد فشل الحكومة الذريع فى ضبط الأسعار.. خلينى أفكرك لما حصل فى سنة من السنين أيام حكم السادات رفعت الحكومة سعر اللحمة.. كيلو اللحمة بقى بجنيه.. الدنيا هاجت وماجت وفارت وقالت كيلو اللحمة بقى بجنيه.. والنهاردة يعنى قريب جدا من رقم المية.. الناس يا عزيزى مطحونة غلاءا!

يا عزيزى مدرس الفرنسية السابق يتابع طلقاته ـ ماتصدقش اشاعة أن الاخوان دعت إلى مقاطعة الانتخابات. الاخوان خلاص خرجت من الصورة.. ولم يعد لها وجود فى الشارع المصرى بالمرة.. واحنا ناقصين غم وهم!

وكمان يا سيدى يتابع مدرس الفرنسية السابق طلقاته ـ عملوا الانتخابات مع دخول المدارس.. الناس حتلاحق على ايه واللا ايه.. تاخد بالها من ولادها ومصاريف ولادها فى المدارس.. لبس+ مصروفات بالآلاف دلوقتي.. بعد موضة دخول الأولاد مدارس خاصة.. ومالها مدارس الحكومة بقت كُخَّة ـ برفع الكاف وتشديد الخاء وسكون الهاء ـ دلوقتي!

وكمان ـ المدرس الفاضل يواصل حديثه إلى العيال اللى اتخرجت وخدت الشهادة وأعدادها تجاوزت الـ 13 مليون شاب.. ولسه قاعدين فى البيت زى الضيف الثقيل الدم.. أو على القهاوى والكافيهات.. أو فى الشارع بترازى فى خلق الله.. والله على الدخان الأزرق تكركع!

واسأله وأنا أعرف: يعنى ايه يا عمنا الدخان الأزرق؟

قال مستنكرا سؤالي: يعنى ما انتش عارف ياباشا؟

قلت له مصححا: على فكرة اللواء أبو بكر الجندى رئيس جهاز التعبئة والاحصاء وهو كنز معلومات وأرقام واحصائيات وحقائق عن كل ما يدور فى بر مصر قال بالحرف الواحد لصحيفة الوطن المصرية: إن معدلات البطالة تراجعت بنسبة تجاوزت الـ 14 % عن يناير 2014 وأن لدينا الآن 3 ملايين و600 ألف عاطل.. وليس 13 مليونا كما يشيعون!

قال حامى حمى اللغة الفرنسية فى بلدنا: حاجة كويسة قوي.. أمال رقم الـ 13 مليون عاطل اللى تردده وسائل الاعلام والقنوات الفضائية اياها يبقى جابوه منين؟

قلت: يمكن تسأل قناة السويس الجديدة والمشاريع الجديدة هناك شغلت شباب كتير.. وكمان قلنا يمكن محور القناة والمشروعات الجديدة هناك وفى شرق بورسعيد..

حقيقى الصورة أكثر جمالا!

لكن الأمر المعلن حقا.. لكل حكومة وفى انتظار المجلس الجديد أن معدلات الفقر فى بلدنا وخصوصا فى الصعيد الغلبان المنسى دائما بلغت حسب كلام رئيس جهاز التعبئة والاحصاء ارتفعت إلى 26،3% ومعظمها فى الصعيد الغلبان الجواني!

..............

................

تحدثت المرأة.. وعندما تتحدث المرأة.. فالكل ما عليه إلا الانصات..

>> ملحوظة من عندي: هذه الجملة قالتها الملكة فيكتوريا الأم لابنها الملك جورج ملك انجلترا أيامها وكان مصمما على الزواج من مسز سمبثون المطلقة الأمريكية التى أكلت عقله والتنازل عن عرش انجلترا من أهلها وقالت له بالحرف الواحد: الرجل عليه أن يختار بين الحب وبين الواجب.. والواجب هو بلدك انجلترا أما الحب هو هذه المرأة الغريبة عنك.. لا تتخلى عن واجبك يا عزيزى من أجل إمرأة!

ولكن عمنا جورج ملك انجلترا اختار حبيبة القلب.. ولم ينصت لأمه وتخلى عن الواجب الذى اسمه عرش انجلترا ليدخل فى دوامة الضياع بقية عمره!

قالت لى زوجة وأم: أريد أن أنقل لك سرا؟

قلت لها فى الحفظ والصون

قالت: ألم يقل الرئيس السيسى أنه مهتم بشباب هذا البلد ويريدهم أن يساعدوه واختار كثيرا منهم فى فريق عمله وعمل الوزراء والمحافظين؟

قلت: هذا صحيح.

قالت: بعض من الأمهات قلن لى أن أبناءهن من الشباب اختفوا.. وهم لا يعرفون عنهم شيئا.. وهم لم يفعلوا شيئا حسب كلام الأمهات.. بل أن معظمهم كان يمشى فى الشارع أو يزور صديقا فأمسكوا به.. ولم تره أسرته من يومها؟

قلت لها: تأكدى يا سيدتى أنهم يدرسون كل حالة على حده وسوف يخرج الجميع فالرئيس لن يرضى أبدا مادامت لم تطولهم الأحكام.. وأن يبيت مظلوم واحد خلف الأسوار ولو لليلة واحدة.. كما فعل الفاروق عمر بن الخطاب عندما سألته امرأة نفس سؤالك يا سيدتي.. وقد افرج عن المئات منهم فى الاعياد!

.................

.................

قال لى رفيقى العجوز فى طابور الانتخابات مدرس اللغة الفرنسية الذى خرج إلى المعاش: انت تتكلم عن الفاروق عمر بن الخطاب أعدل حاكم عرفه التاريخ، والذى قال: لو تعثرت بغلة فى العراق لسألوا عنها عمر!

أتعرف ماذا قالت جوزيفين عن زوجها نابليون بونابرت أعظم قائد حربى فى التاريخ الحديث.. أما أقدم قائد حربى فى التاريخ كله قديمه وحديثه ـ كما يقول المؤرخون ـ فهو تحتمس الثالث الذى مازالت نظرياته العسكرية تدرس فى أعظم الكليات العسكرية فى العالم كله.. قالت عنه: إنه لم يكن يذهب إلى فراشه كل ليلة.. حتى يطمئن بنفسه على أنه لا يوجد داخل سجون باريس كلها أى مسجون بلا أوراق إدانة.. يعنى بلا تهم!

قلت له: وكمان نابليون بونابرت هو الآخر.. سار على خطى الفاروق عمر.. وهو الذى اقتحم بجنوده وخيله حرمة وقدسية الجامع الأزهر.. إبان ثورة القاهرة ضد المحتل الأجنبي!

.................

.................

أيتها الدنيا كم فيك من عجائب وغرائب؟ والجملة ليست لي.. ولكن قالها أديب فرنسا العظيم أناتول فرانس{!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف