الوطن
جمال عبد الجواد
بعد أن جربناه مرة واحدة.. قانون الانتخابات يحتاج إلى تعديل
سبعة وعشرون بالمائة هى نسبة المشاركة فى جولة الانتخابات الأولى. نسبة المشاركة منخفضة وتشير إلى خلل جسيم فى نظامنا السياسى. نسبة التصويت المنخفضة تشير إلى أن الغالبية من الجمهور غير مهتمين -لأسباب مختلفة- بانتخابات نعتمد عليها لتشكيل مجلس النواب. عدم الاهتمام بالانتخابات يشير إلى فقدان الاهتمام -وربما فقدان الثقة- بالمؤسسة التشريعية التى تحتل مكانة محورية فى أى نظام سياسى حديث. انصراف الناس عن مؤسسات النظام السياسى وفقدانهم الثقة فيها نذير شر يجب أن ننتبه له مبكراً، وإلا انتهى بنا الحال إلى وضع تتحول فيه مؤسسات نظامنا السياسى إلى هياكل معدومة المعنى وفاقدة المحتوى يسهل الإطاحة بها فى وقت تتآمر فيه علينا قوى الشر فى الداخل والخارج.

نظامنا السياسى نظام شاب جاء بعد انتفاضة الثلاثين من يونيو التى ما زلنا نعيش فى ظلها. فى المراحل المبكرة من عمر نظم ما بعد الثورات والانتفاضات الشعبية الكبرى يكون النظام السياسى مليئاً بعنفوان وحيوية تنعكس فى ارتفاع نسب المشاركة فى الانتخابات، وهى النسب التى تنخفض بعد ذلك مع استقرار الأمور وتطبيع الأوضاع، أما أن تشهد أول انتخابات نيابية يتم إجراؤها فى ظل نظام ما بعد الثلاثين انخفاضاً كبيراً فى معدلات التصويت، فهذا من علامات الشيخوخة المبكرة التى تستدعى تدخلاً سريعاً.

الدراسات تشير إلى أن لدينا حوالى 25% من المواطنين غير مهتمين بالانتخابات على الإطلاق. لم يصوِّت هؤلاء قبل يناير 2011، ولم يصوتوا بعده، وليست لديهم نية للتصويت فى المستقبل القريب. دعك من هؤلاء، فتغيير موقفهم لا يبدو ممكناً فى المدى المنظور، المشكلة هى فى الخمسين بالمائة الباقين الذين شاركوا فى انتخابات سابقة أو الذين لا يستبعدون المشاركة فى التصويت، فعدم مشاركة هؤلاء فى الانتخابات الجارية يشير إلى وجود خلل كبير فى النظامين السياسى والانتخابى، وبدون معالجة هذا الخلل لن يكون ممكناً استعادة هؤلاء لطوابير الانتخابات.

بعض الممتنعين عن التصويت هم جمهور الإخوان وحلفائهم غير المرحب بهم فى مؤسسات نظامنا السياسى. هذه حقيقة توقعناها ورضينا بها ثمناً لإنقاذ الأمة والوطن، وانتظاراً لمرحلة يثبت فيها لهؤلاء أنهم كانوا على خطأ فيعود إليهم صوابهم. المشكلة هى أننا لا نعرف بالضبط حجم هؤلاء، ولن نكون قادرين على معرفة حجمهم الحقيقى ما دام باحثونا ومراكزنا البحثية ممنوعين من إجراء استطلاعات للرأى العام، ورغم أن هذه قضية أخرى فإنها قضية ذات صلة بما نحن بصدده؛ لأن نطاق التضييق بات أوسع كثيراً من التضييق على الإخوان وحلفائهم.

بعض آخر من الممتنعين عن التصويت هم من أنصار تيارات سياسية غير إخوانية لا يجدون بين المتنافسين ممثلاً لهم. يبحث الناخب عن ممثل له بين المرشحين فلا يجده، وفى هذا دليل على ضيق نطاق مجتمعنا السياسى، وعلى وجود قوى مستبعدة خارج حدوده، حتى لو لم تكن هناك نصوص قانونية ووثائق سياسية تنطق بذلك. إعادة النظر فى سياسات راهنة تضع قوى سياسية عدة خارج نطاق مجتمعنا السياسى بلا مبرر أو سبب كفيل باستعادة هذا القسم من الناخبين لصناديق الاقتراع.

ليس لبعض الممتنعين عن التصويت انحيازات سياسية محددة، ولا هم يبحثون عن مرشح ذى توجهات بعينها، ولكنهم لا يرون فى الانتخابات بشكلها الراهن شيئاً يثير الاهتمام أو يوحى بالجدية يشجعهم على تحمل مشقة التصويت. لهؤلاء تصور عن الانتخابات يختلف عما هو موجود لدينا الآن، فالانتخابات الجديرة باهتمام هؤلاء فيها قدر أكبر من التعددية الفكرية والسياسية، وفيها حملات انتخابية فيها الكثير من النقاش والمناظرة وقليل من شراء الأصوات والرشاوى الانتخابية، وفيها مرشحون ينطقون بحديث المنطق والحجة والبرهان وليس بحديث القرابة والعصبية والوعود الخاوية. إنهم الناخبون الذين لا ينتظرون خدمة خاصة من نائب، والذين يواجهون الحياة أفراداً معتمدين على أنفسهم وليس كأعضاء فى قبيلة أو عائلة كبيرة تسعى لإنجاح أحد أبنائها طمعاً فى المكانة والجاه، والذين لا يجدون أنفسهم مخاطبين بحديث المنافع والعصبيات. استعادة هؤلاء لصفوف الناخبين أمر ممكن وضرورى وكاف لتعزيز شرعية وتماسك نظامنا السياسى بغض النظر عن مسار الإخوان ومصيرهم.

السبعة وعشرون بالمائة الذين خرجوا للتصويت فى هذه الانتخابات هى أقصى ما يمكن تحقيقه فى منافسة انتخابية تقوم على توزيع المنافع والوعود واستقطاب العصبيات. لقد تغير مجتمعنا ولم تعد هذه الأساليب تجدى سوى مع أقلية من الناخبين، وبات قسم كبير من المصريين يشعرون بالاغتراب عنها، بل وباتوا يتعاملون معها بسخرية وعدم احترام، ولن يعود هؤلاء للاصطفاف أمام لجان الانتخاب بدون تغيير شكل وطبيعة المنافسة الانتخابية فى بلادنا، وهذه مسألة لا تتعلق بتوجيه سهام التقريظ والوعظ للمرشحين والأحزاب، ولكنها تتعلق بقانون الانتخابات الذى يساعد على بقاء الوضع البائس الراهن على ما هو عليه، ويجعل من أى جهد تقوم به الأحزاب والمرشحون فى أى اتجاه آخر نوعاً من إهدار الوقت والجهد.

الأخذ بنظام القوائم النسبية بديلاً عن نظام القوائم المطلقة المعمول به حالياً يمثل الحد الأدنى الضرورى لإصلاح نظامنا الانتخابى، فالقوائم وليس المرشحين الأفراد هى المؤهلة لطرح الأفكار والمبادئ والسياسات، وفى الأخذ بالقوائم النسبية تشجيع لأحزاب وتيارات عدة على خوض غمار المنافسة، وفيه إغراء لقسم لا بأس به من الناخبين الممتنعين لاستعادة الاهتمام بالانتخابات وبمؤسسات نظامنا السياسى.

لقد جربنا قانون الانتخابات الراهن مرة واحدة وفيها الكفاية، وإلا تحملنا جميعاً ثمناً باهظاً، فتعديل هذا القانون بات أمراً ملحاً بعد ما رأينا آثاره الوخيمة فى التطبيق.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف