الندم لا يقدم ولا يؤخر. وعموماً كأننا زرناه. لأن الوقت الذي قضيناه في مكتب اللواء محسن عبد النبي كان وقتاً معه. لم يكن ذلك بتخطيط منا. لكن كل واحد حكي حكايته معه
صباح يوم السبت 17/10 الجاري. اتصل بي العقيد محمد نبيل ليبلغني أن اللواء محسن محمود عبد النبي، مدير إدارة الشئون المعنوية في القوات المسلحة. فكر أن نذهب مجموعة من الأدباء والكتاب لزيارة جمال الغيطاني في مستشفي الجلاء. وعلي طريقة محمد نبيل توقف وسألني:
- ما رأيك؟
قلت له:
- فكرة أكثر من جميلة وإنسانية. وربما كانت مطلوبة لنا قبل أن تكون مطلوبة لجمال.
بعد ساعتين كنا هناك في مكتب اللواء محسن عبد النبي. جاء جمال بخيت من آخر الدنيا حيث يسكن. وجاء أشرف عامر مثله من مكان بعيد. وأتي عبد العزيز موافي من الإسكندرية حيث كان يحضر ندوة هناك. وصل ومعه شنطة سفره. وعلي ملابسه تراب السفر.
كان اللواء محسن عبد النبي قد أرسل ضابطاً من مكتبه إلي المستشفي ليرتب لنا موضوع الزيارة. وجلسنا نتأهب لزيارة تهمنا جميعاً رغم أن الذي سنزوره وهو جمال الغيطاني ربما لا يشعر بوجودنا. لكنه الواجب الإنساني والالتزام الإنساني تجاه إنسان نعزه ونحبه جميعاً.
جلسنا وكل منا يعود لذكرياته الشخصية مع جمال. إلي أن اتصل بنا الرائد الذي أرسله اللواء محسن. وقال ان الطبيب المعالج بالمستشفي قال ان أسرة جمال ترفض زيارته. وأن هذا حقها.
كان رأينا جميعاً احترام حق الأسرة في ذلك. وعدم اغتصاب زيارة قد لا يكونون علي استعداد لها. وقد يكون هو نفسه غير مستعد لها. قضينا معاً بعض الوقت. ثم انصرف كل منا لحال سبيله. وأنا قلت لنفسي إن ما جري يعد نصف زيارة. لأن النية هي نصف الطريق إلي الفعل. وقد نوينا ومارسنا بعض الفعل. لكن الظروف لم تكتمل.
لم نكن نعلم أنها كانت الفرصة الأخيرة. لأنه قبل مضي نصف نهار السبت. وجزءاً من الليل المؤدي إلي الأحد. كان جمال قد رحل عن الدنيا. قلت لنفسي إنه هاتف الموت الذي يطل علينا، نشعر به وإن كنا لا نراه. نحسه وإن كنا لا ندركه. نستشعر مقدماته علي نحو مركب ومعقد داخل النفس الإنسانية.
الندم لا يقدم ولا يؤخر. وعموماً كأننا زرناه. لأن الوقت الذي قضيناه في مكتب اللواء محسن عبد النبي كان وقتاً معه. لم يكن ذلك بتخطيط منا. لكن كل واحد حكي حكايته معه. إلا أنا. لأن حكايتي طويلة. من الصعب أن تحتملها جلسة واحدة. ولذلك شعرت أننا فعلاً زرناه. وعندما علمت بعد السادسة من صباح اليوم التالي الأحد خبر رحيله. تعجبت من النداء الذي هتف لنا جميعاً أن نذهب إليه. بصرف النظر من كان صاحب الفكرة الأولي. لكن التلبية الجماعية منا كانت تعني أننا استجبنا للنداء. علي الرغم من أن الزيارة لم تتم.
علي أن ما قام به جيشنا تجاه رحيل جمال الغيطاني مسألة لم تكن مفاجأة لي. ولا أعتقد أنها ستفاجئه في عالمه الثاني. فالرجل راهن طول حياته. وزاد الرهان في أيام عمره الأخيرة. لدرجة اليقين الذي لا يقبل المناقشة. كان يؤمن بلا حدود بأهمية وحدة الدولة المصرية والكيان المصري واتحاده. والحفاظ علي هذا الاتحاد مهما كانت التضحيات.
وكان يري ومعه كل الحق أن جيشنا هو الضامن الجوهري لوحدة هذا البلد واستمرار هذا الوطن والحفاظ علي حضارتنا التي ورثناها من أجداد الأجداد. لم يكن يمل من الكتابة حول هذا الموضوع. وكان يردده سواء في لقاءاته التليفزيونية. أو مقالاته في عموده اليومي بجريدة الأخبار. الذي اختار له عنوان: عبور. وكان العنوان دالاً أكثر من أي شئ آخر.
فكَّر اللواء طبيب بهاء الدين زيدان، مدير مستشفيات الجلاء. وفي نفس الوقت كان يفكر اللواء محسن عبد النبي، مدير الشئون المعنوية بالقوات المسلحة، في أن تقام ليلة العزاء بمسجد المشير طنطاوي، قاعة السلام، التي تعد أكبر قاعات المسجد. وقام اللواء محسن عبد النبي باعتماد مذكرة أعدها العقيد محمد نبيل لكي تُعرض علي القائد العام للقوات المسلحة، الفريق الإنسان صدقي صبحي، لتخصص القاعة لليلة العزاء لجمال الغيطاني.
وهكذا بدا لي الأمر كأن جيش مصر العظيم رغم انشغاله في حرب سيناء ضد التطرف والإرهاب. ورغم حمايته للانتخابات البرلمانية من الإسكندرية حتي أسوان. ومن سيناء حتي مرسي مطروح. فإنه كان حريصاً علي أن تكون كلمة الوداع الأخيرة فوق أرضه وفي مسجد يحمل اسم أحد رموز العسكرية المصرية علي مدي تاريخها كله.
جاء الوداع علي أرض جيشنا التي هي أعز أرض في بر مصر. الأرض التي اعتبر جمال الغيطاني أن وحدتها وحمايتها واستمرارها قضية عمره الأولي والأخيرة.