وفجأة قالت له احدي الطالبات:
عايزة أهاجر!
رأينا وجه الزعيم هونيكه وقد بدت عليه علامات الدهشة المفرطة وهو يسألها في تهكم واضح:
- هل تريدين ان اعيش في المانيا الشرقية وحدي؟
الفاشية الدينية في بلدنا هي صورة بالكربون لكل الوان الجماعات الفاشية التي سيطرت علي قادة واعضاء ورموز هذه الجماعات التي اطلت علينا عبر التاريخ وتجسدت في الحركة النازية التي تزعمها ادولف هتلر في المانيا والحركة الفاشية التي تزعمها موسوليني في ايطاليا.. والتي اعتمدت في جوهرها علي زعامة شخص واحد هو الزعيم الاوحد صاحب الاغلبية الكاسحة في الشارع السياسي الذي لا يقبل المنافسة ولا المشاركة ولا مجرد ظهور غيره علي الساحة.
وعندما نتأمل الافكار التي سيطرت علي عقول هذه الجماعات نجد ان بينها العديد من القواسم المشتركة التي تتجسد في عبارة الزعيم وجنون العظمة وتضخم الذات والانفراد بالقوة المطلقة واحتكار الحكمة والرأي السديد علاوة علي الاعتماد المطلق علي الحشد والمسيرات الجماعية والسلاسل البشرية والشعارات الصارخة وسيطرة العقلية الجماعية علي سلوكيات وهتافات وشعارات وملابس الانصار والاتباع من ارباب العقول البدائية.. التي تصل بالزعيم في كل مرة الي مقعد القيادة باغلبية كاسحة تصل الي ٩٩٫٩٪ في كل مرة.
الزعيم يستعيد ثقة الجماهير الغفيرة بالحصول علي ٩٩٫٩٪ في كل مرة سواء شارك المواطنون الذين يخضعون لسلطانه وهيلمانه في الاستفتاء او لم يشاركوا.
نسبة المشاركة لا تهمه ويدرك الشعب بمجرد متابعة المشهد من بعيد انه سواء شارك في الاستفتاء او لم يشارك فان غيره سوف يتكفل بذلك.
هذه الحالة التي تابعتها عن قرب في الانتخابات التي جرت في دول الكتلة الشرقية تسفر بمرور الوقت الي تشكيل واقع عجيب ويدعو للدهشة وهو ان الشعوب تعشق الحاكم ولا تتصور الحياة بدونه وان نهايته هي نهاية للدولة والكيان الاسري ومستقبل اولاده واحفاده في الوقت الذي يحلم فيه كل مواطن باليوم الذي يهاجر فيه الي الخارج لينعم بحياة أفضل.
في ثمانينات القرن الماضي حضرت حفلا اقامه الزعيم ايريك هونيكه لتسليم شهادات تفوق لمجموعة من الطالبات وكان يسأل كل طالبة بعد ان يقدم لها شهادة التفوق عن أمنيتها فترد بجملة وابتسامة تحت عدسات اجهزة التصوير.
وفجأة قالت له احدي الطالبات:
عايزة أهاجر!
رأينا وجه الزعيم هونيكه وقد بدت عليه علامات الدهشة المفرطة وهو يسألها في تهكم واضح:
- هل تريدين ان اعيش في المانيا الشرقية وحدي؟
ولم يضحك احد.
اريد ان اقول ان استمرار الدكتاتوريات لسنوات طويلة فوق مقاعد الرئاسة.. يسفر في النهاية عن ثقافة عجيبة تطيح بفكرة المشاركة والمنافسة وتبادل السلطة وحل المشاكل قبل ان تتفاقم وتتحول بمرور الوقت الي معضلات مستحيلة العلاج.. وقبل ذلك كله ترسيخ فكرة وثقافة.. عبادة الاشخاص والـ٩٩٫٩٪.
ولذلك نلاحظ ان جميع الانتخابات التي جرت في دول اوربا الشرقية بعد ان تحررت من الدكتاتوريات التي ترسخت لسنوات طويلة واجهت مشكلة عجيبة وفريدة وهي ضعف المشاركة في هذه الانتخابات.
في الانتخابات التي جرت في ألمانيا الشرقية وتعددت فيها الاحزاب والاتجاهات السياسية كانت نسبة المشاركة ضعيفة جدا وامضيت ساعات طويلة مع انجيلا ميركل الفتاة الشابة التي كانت مرشحة عن الحزب المسيحي الديمقراطي ودار بيننا حوار عن اسباب ترشحها عن احد احزاب المانيا الغربية وقالت لي ليلتها:
ليس لدينا احزاب سياسية وكل ما نراه الان هو مشروعات لاحزاب لا نعرف برامجها ولا اسماء قادتها ولا مصادر تمويلها لسبب بسيط هو اننا لا نزال في سنة اولي انتخابات!
الطريف في الموضوع ان انجيلا ميركل ترشحت في هذه الانتخابات باسم الحزب المسيحي الديمقراطي وهو احد الاحزاب الرئيسية في المانيا الغربية وهو الذي وصل بها الي منصب المستشارة في برلين الان.
اريد ان اقول ان جميع الدول التي خضعت لثقافة ٩٩٫٩٪ تعرضت لنفس المشكلة وهي ضعف المشاركة في الادلاء بالاصوات لعدة اسباب.
أولها: ان جميع الاحزاب المرشحة في الانتخابات لم تكن معروفة ولم يسبق لها ممارسة السلطة ولا نعرف من المرشحون باسمها سوي الوجوه القديمة التي اطلت علي الساحة ايام الحزب الشمولي بزعامة ايريك هونيكه وهي وجوه يرفضها الشعب كما يرفض كل مواطن كان قد صافح هونيكه ولو في مناسبة عامة.
ثانيها: ان جميع المرشحين كانوا علي حد تعبير انجيلا ميركل التي كنا نعرفها باسم «انجي» عبارة عن قطط داخل اجولة والمواطن لا يعرف من القطة سوي الجوال.
ثالثها: ان الغالبية العظمي من مواطني المانيا الشرقية لم تكن قد مرت بتجربة الادلاء بأصواتها في انتخابات حرة نزيهة.. وكانت تتهيب مجرد الانتقال لصناديق الانتخابات.
مفهوم طبعا ان الحالة التي نمر بها في مصر.. هي حالة تختلف عن تجارب دول الكتلة الشرقية لسبب بسيط هو انتشار الامية بين قطاعات شاسعة من المواطنين الذين يتأرجحون بين أمية القراءة والكتابة وأهمية الخبرة السياسية والتي ذاعت وتفشت طوال الستين سنة الماضية بكل قسوتها وضبابيتها.
نحن اذن امام الحالة التي اطلقت عليها انجي ميركل.. وهي اننا في سنة اولي انتخابات.
بيد ان هذا الواقع يشير الي حقيقة اخري وهي ان ضعف المشاركة في الانتخابات ليس مقصورا علي دول الـ ٩٩٫٩٪ وانما هي ظاهرة تعرفها الدول العريقة في مسيرة الديموقراطية والتي ادت بدورها الي عدم حصول حزب واحد علي الاغلبية التي تسمح له بالانفراد بالسلطة وهو ما ادي الي ظهور الحكومات الائتلافية التي تضم اكثر من حزب قد يصل في بعض الاحيان الي تشكيل حكومات ائتلافية تضم ثلاثة احزاب او اكثر بما يعني ان عدم حصول حزب واحد علي عدد الاصوات التي تسمح له بتشكيل الحكومة وحده قد جاء بعدد كبير من البدائل الدستورية وليست نهاية العالم الذي يحرز في مجال الادلاء بالاصوات العديد من الرسائل الحديثة.. وفي مقدمتها الادلاء بالاصوات عن طريق الاجهزة الحديثة ويستطيع الناخب ان يدلي بصوته وهو في منزله جالسا فوق الكنبة.
اختصار الكلام اننا بمرحلة سنة اولي انتخابات وليس صحيحا.. ان الفاشية الدينية هي التي حالت بين الناخب وبين صندوقه الانتخابي.
وكل ما في الامر اننا نخوض معركة انتخابية.. لم نعرفها منذ اكثر من ٦٠ سنة.