من الموضوعات المهمة فى استقرار الحياة السياسية، أن يستجيب المسئولون، لاتجاهات قياس الرأى العام، التى تدل - من بين ما تدل عليه - على تزايد شعبية المسئولين الكبار، ومنهم الرؤساء أو الوزراء، أو تدنى تلك الشعبية. معظم الشعوب حساسة، ولها قرون استشعار تعبر بها عن رأيها سلمًا، إلا المصارعين والمنغمسين فى الصراع، غالبًا من أجل السلطة والحكم أو الحياة الحزبية الصعبة.
الشعوب تعبر عن رأيها - حتى تحت الإدارات والحكومات المستبدة - أو الديكتاتوريات، ولو بالنكتة على المقاهى أو فى شتى مناحى الحياة، فى الحقل والمصنع والشارع والأتوبيس، وتخترع الشعوب شخصيات وهمية، تتكلم عنها حتى لا يصبها ضررًا فيما تقول، ولا تصل إليها يد البطش. والنكات السياسية تملأ الكتب العديدة وعلى الألسنة، وهنا تكمن أهمية قياسات الرأى العام، وتحليلها والاستجابة لها.
فى سنة 1986، أجرى صديقنا العزيز الدكتور إعجاز جيلانى- معهد جالوب بباكستان- استطلاع رأى سياسى عن مستقبل باكستان فى ضوء حكم ضياء الحق وشهرته، وتجمع الشعب حوله لدعم الجهاد الأفغانى، والسمعة الطيبة لباكستان، فى تلك الفترة، ودعمها المباشر لأفغانستان، فى رعاية المجاهدين من ناحية والمهاجرين أو اللاجئين من ناحية أخرى، فضلًا عن تعاونها مع الأمريكان والغرب والناتو فى مواجهة الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو. كنا نعمل سويًا مع د. جيلانى كمستشارين لمعهد دراسة السياسات IPS فى باكستان، مع البروفيسور خورشيد أحمد، والدكتور أنيس أحمد، والدكتور طاهر أمين (باكستانى الأصل والجنسية وإن ظنه البعض من الاسم عربى).
كانت نتيجة الاستطلاع عجيبة جدًا، إذ توقع الدكتور إعجاز جيلانى، عودة بناظير بوتو إلى الحكم فى غضون سنتين. كان هذا الاستطلاع مثار سخرية البعض، إذ أن الجنرال ضياء الحق كان يسيطر على الأمور والأوضاع جيدًا آنذاك، وكانت الـ«isi» ( أى المخابرات الباكستانية) فى أنشط حالاتها، وكانت «بناظير بوتو» تعيش فى الغرب، بعد مقتل أو شنق أبيها «ذو الفقار على بوتو»، منذ أواخر السبعينيات، كان الجميع ضد بناظير بوتو، من الجيش والحكومة والإسلاميين والعلماء ومعظم الأحزاب السياسية، ولكنها كما جاء فى كتابها : ابنة من الشرق Daughter of the East) )، قال لها الأمريكان لقد رتبنا لك العودة إلى باكستان. كانت تتعجب من هذا الكلام وسط الجو السائد فى باكستان، الذى لا يشجع على العودة.
وعادت بوتو فى أبريل 1986، بعد أن قال لها الأمريكان، لقد رتبنا لك كل شئ وبعد الاطمئنان إلى رجال الكونجرس الأمريكى. ووجدت حشدًا كبيرًا فى المطار (مطار لاهور) حوالى نصف مليون مشجع، ينتظرونها على شوق وهتافات، حقيقة أو اصطناعًا. طواعية أو قسرًا، مجانًا أو بالدولار. وبدأت تجهز لعودتها إلى الحياة السياسية، ثم عادت إليها، بعد مقتل ضياء الحق، ونجحت ثم تعرضت للهزيمة ثم الاغتيال بعد ذلك.
أنا لا أذكر هذه الواقعة هنا، لدراسة كل جوانبها بالتفصيل، بل ليدرك من لا يدرك، أهمية قياس اتجاهات الرأى العام، والقراءة الصحيحة للواقع القائم. ومن ذلك رسالة الشعب المصرى القوية فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية 2015.
أحيانا تكون الآمال والطموحات أكبر بكثير من القدرات والإمكانات، وإذا فقدنا التوازن كانت النتائج كارثية. هل يحقق البرلمان القادم هذا التوازن بين فئات الشعب المتنوعة ؟ وهل يحقق طموحات الشعب الذى استفتى على الدستور، وفرح وغنى للدستور الجديد ورقص فى الشوارع؟ وهل يستطيع أن يساعد فى تحقيق أهداف الثورتين؟ أم أنه سيكون سببًا فى ضعف شعبية النظام بأكمله؟ أسئلة كثيرة تدور بعد أن وقعت الفأس فى الرأس - كما يقول المثل الشعبى. ولعل الشعب يستجيب للمطالبات العديدة ومنها مطالبة الزعيم الرئيس لهم بالنزول، لينزل فى الإعادة وفى المرحلة الثانية -ليقول- كلمته ولا ينعزل عن الواقع، لأن «الذى يحمل قربة مخرومة» - كما يقول المثل الشعبى الجميل، بتخر على رأسه، وليس على رأس الجيران. والله الموفق.