الأهرام
يوسف القعيد
الموت يقترب
دقيقتان بعد السادسة صباح الأحد 18 أكتوبر عندما سمعت صوت التليفون عالياً. أضعه فى أقرب مكان لنومي. فهو صلتى بالدنيا وطريقى فى الاطمئنان على من أعتبر نفسى مسئولاً عنهم فى هذا العالم. أمينة ورباب فى حى المعادى بالقاهرة. وأحمد فى مدينة كاليجارى فى كندا. لذلك أترك التليفون مفتوحاً. والمكالمات كأنها على الهواء مباشرة. حتى لو حُرمت من نعمة النوم. والنوم نعمة لمن تقدم فى العمر مثلي. فكلما مرت السنوات، قلت القدرة على الاستجابة للنوم.

- الأستاذ جمال البقاء لله.

صوت اللواء طبيب بهاء الدين زيدان. أكمل بلغة فيها إنسانية الطبيب وحزم ومسئولية الضابط. قال إن الوفاة حدثت منذ دقيقة واحدة. وما زال أمامنا بعض الوقت قبل أن نتخذ ترتيبات الإبلاغ وإعلان الخبر.

من عادة اللواء بهاء زيدان أن يذهب لمكتبه فى الخامسة صباحاً يومياً. وليس فى هذا أى مبالغة من جانبي. ويبقى فى المكتب حتى ينتهى من العمل الذى يريد القيام به. حتى لو استمر حتى الخامسة مساء. وهو - لمن لا يعرف الطبيب والضابط المسئول عن المجمع الطبى فى الجلاء بطريق صلاح سالم بالقرب من المطار. وفى المجمع حوالى 13 مستشفى مختلفا ومتنوعا.

أغلق التليفون وبدأت أنا فى هذا الوقت المبكر فى استرجاع رحلة عمرها أكثر من نصف قرن، هى عمر معرفتى بصديق العمر جمال الغيطاني. منذ أن التقينا فى منتصف ستينيات القرن الماضى فى رحاب نجيب محفوظ بمقهى ريش، حتى لحظة رحيله عن الدنيا.

بدأ نور النهار الأزرق الذى يطارد ظلام الليل يتسلل إليَّ ومعه ذلك الحزن المقيم الذى لا نتبينه. لكنه يصيب النفس بملح وضنى وإحساس بالأسى يتفوق حتى على الحزن بمعناه الذى نعيشه أمام لحظات قاسية من أعمارنا. هل قلت ملح؟ إن الأرض المالحة هى أكثر تعبيرًا عن الفقد والفراق والعقم بالنسبة لمن أتى من القرية مثلي.

يعيش الإنسان حياته والأيام تتدحرج. يوم يدفع يوماً. والليالى تمضي. ليلة تأتى بعد ليلة. لكن ثمة لحظات عبقرية فى عمر الإنسان يكون لها ما قبلها ولها ما بعدها. أو فلنقل لحظات فاصلة. يتوقف الزمان عندها. ونعجز عن أن نستأذنه لنعود لمسيرة حياتنا لأن التوقف قد يطول وقد يستمر وقد يأخذ أياماً وليالى وأسابيع وربما شهورا أو سنوات من أعمارنا.

فى فجر العاشر من أغسطس الماضى دخل جمال الغيطانى المستشفي. بالتحديد الثالثة فجراً. كانت قد وصلت به للمستشفى رفيقة عمره وشريكة دربه ماجدة الجندي، ولحق بها شقيقه اللواء مهندس إسماعيل الغيطاني. لتبدأ حكاية طويلة استمرت لأكثر من شهرين فى المستشفى فى حالة لا يمكن وصفها.

زرته كثيراً. وإن كنت متأكداً أنه لم يشعر بأى زيارة من هذه الزيارات. اليوم السابق على دخوله المستشفى كان يوم جمعة. ووصوله المستشفى كان يوم السبت قد أصبح مستقراً يعلن عن نفسه أو على الأقل عن مقدماته التى نعرفها من أذان الفجر. اليوم السابق جرى آخر اتصال تليفونى بينى وبينه. كان هو المتصل. سألني: هل ستذهب لعزاء نور الشريف؟.

قلت له: مؤكد. قال لي: إنه يريد أن يحضر ونتقابل هناك. طلبت منه عدم الحضور. قلت له إن هذا العزاء أعلنت عنه وسائل الإعلام لأيام متصلة. وحددت الزمان والمكان. لذلك أعتقد أن الأمر سيكون حالة من الزحام التى ربما أضرت به ضرراً بليغاً. وسببت له مفاجآت صحية لا يتوقعها هو ولا نتوقعها نحن.

عرفت فيما بعد أنه تناقش مع أهل بيته فى ذهابه لعزاء نور الشريف. وكان رأيهم من رأيي. لذلك عاود الاتصال ليطلب منى أن أوصل عزاءه لأهل نور الشريف. زوجته بوسى وابنته مي. وقد فعلت هذا. وعندما وصلت إلى عمر مكرم. أدركت حكمة عدم مجيئه معى لحضور هذا العزاء الذى كان زحاماً فى زحام. وتحول من مناسبة وداع لفنان أحببناه لمظاهرة إعلامية لا معنى لها. تؤكد التدهور الأخلاقى والانهيار القيمى الذى نعوم فيه ونحن لا ندري.

فى رحلة ذهابى إلى عمر مكرم. وعودتى منه. كنت أنوى بمجرد دخولى البيت أن أتصل به لأؤكد له صواب عدم ذهابه. وأننى أبلغت عزاءه لأهل نور. وأصف له كما تعودنا عبر سنوات وسنوات ما شاهدته. لكنى تأخرت فى العودة لأنى مارست هوايتى القديمة وتمشيت فى منطقة وسط البلد التى لا نستطيع الوصول إليها الآن إلا بعد عمل خطة خمسية للتغلب على صعوبات الوصول وما أكثرها. ولذلك ما إن أجد نفسى هناك حتى ألف وأدور بدون هدف محدد ولا غاية مرسومة إلى أن تتعب قدماى فأعود إلى البيت.

دخلت بيتي. كانت الساعة توشك أن تقترب من الثانية عشرة. لحظة انتصاف الليل. وهذا وقت متأخر جداً بالنسبة لي. لذلك أجلت الكلام للغد يوم الجمعة. حيث يوجد تليفون الأسبوع الطويل. ولم أكن أدرى أن الاتصال الذى تم لحظة غروب اليوم السابق سيصبح الاتصال الأخير. ليضع خاتمة لاتصالات تليفونية على التليفون الأرضي، ثم على الضيف غير المرغوب فيه رغم فوائده الكثيرة الذى نسميه المحمول. ويقول عنه علماء المجامع اللغوية: الهاتف النقال.

ونحن نعيش فى زمن احتل التليفون مساحة أكبر مما أتصور فى حياتنا. أصبح بديلاً للاتصال الشخصي. وجعلنا نستسلم لكسل إنسانى نادر. ونعتبر أنه بديل للقاء المباشر. علماً أنه لا بديل له على الإطلاق. لذلك نؤرخ لعلاقاتنا لبعضنا البعض باتصالاتنا التليفونية التى كانت قليلة ومحدودة قبل أن نصل لمشارف زمن التليفون المحمول الذى بدد خصوصية حياتنا وقلل كثيراً من فرص تواجدنا معاً.

قبل دخوله المستشفى بأيام كان افتتاح مشروع قناة السويس فى السادس من أغسطس. الذى شغل قدراً كبيراً من اهتمامه ومتابعته ورهانه على أن هذا الحدث سيكون له ما بعده. وحرصه على أن يكون موجوداً حاضراً مشاهداً التاريخ وهو يصنع أمام أعيننا. تابع معى وصول الدعوات. وعندما ذهبت إلى الاتحادية لإحضار دعوتي. سألت على دعوته وعرفت أن مؤسسة الأخبار أرسلت وأخذتها. وأبلغته بذلك.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف