لقد كانت الهجرة النبوية للرسول المصطفي من المخرج الصدق "مكة المكرمة" دار السكن وعقر الوطن إلي المدخل الصدق "المدينة المنورة" مدينة السلام ويثرب النور.. كانت من الأعمال الظاهرة والباهرة والتي تؤيدها قوة السماء وتلحظها عناية الله وتحفها ملائكة الرعاية والرحمة.
وقد كانت هذه الهجرة النبوية فتحاً جديداً في تاريخ الإنسانية وتحولاً واضحاً في وضع الجماعة البشرية ونصراً ملحوظاً بالدعوة الإسلامية وكأنما كلانت الفاصل بين عهدين طويلين مديدين: العهد الأول منهما هو عهد الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء.. والعهد الثاني هو عهد الإسلام والإيمان واليقين والإحسان والنور الإلهي الذي بثه الله بين عباده فأشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. يقول الرافعي رحمه الله "حتي إذا كانت الهجرة فانتقل الرسول إلي المدينة بدأت الدنيا تتقلقل كأنما مر بقدمه علي مركزها فحركها وكانت خطواتها في هجرته تخط في الأرض ومعانيها تخط في التاريخ وكانت المسافة بين مكة والمدينة وميناها بين المشرق والمغرب".
وهكذا قد أثمرت هذه الهجرة ثمراتها المباركة ومنها علي سبيل المثال:
يلاحظ كلمة "الهجرة" أن الاسم فيها مأخوذ من الفعل الثلاثي "هجر" ولكن الفعل مأخوذ من الفعل الرباعي "هاجر" وكل ما ورد في القرآن الكريم جاء بلفظ "هاجر" لا يقال اللذين "هجرو" وإنما يقال "اللذين هاجرو" ويسميهم المهاجرين.
وإذا كان الفعل هنا "هاجر" فلابد أن يكون هنا مفاعلة "ومن جانبين" وقد حدث اعتداء وجفوة وعدم استقرار من المقيمين بمكة فما كان الرسول إلا أن ينازع ويترك ذلك المكان ويكون الفعل هاجر. ولكن حينما صارت اسماً أراد الاصطلاح في ذلك أن يجعل المكان وأهل المكان الذي جفاك واضطهدك حينما تفارقه لا يكون مذكوراً في نفسك أبداً بل تنساه وأنت الذي هجرته. إذن نأخذ الاسم كلمة "الهجرة" وأخذ الفعل كلمة "هاجر" الشيخ الشعراوي: هجرة الرسول ص40. 42 ثم يضسف قائلاً "وأيضاً إذا نظرنا إلي الملابسات التي حدثت في الهجرة نجد أن كلمة تضامن لم تبدأ بالهجرة وإنما التضامن كان أيضاً وسيلة للهجرة أي أن الهجرة قد حدثت بين تضامنين: تضامن سبق الهجرة فهيأ النفوس المؤمنة لها. وتضامن أعقب الهجرة نتيجة لترك أقوام أهلهم وأموالهم فأصبحوا بلا شيء".
إن الهجرة لم تكن عملاً ارتجالياً ولم تكن الثقة التي لا حد لها في نصر الله حجة للتواكل والسلبية. ولكنها علي العكس كانت باعثاً علي الحظر وأخذ الأمور بمنطق علمي دقيق لا يترك شيء للصدفة. يقول أ.د.عبدالعزيز كامل "إذا كانت هجرة الحبشة" مجرد إيواء فقد كانت الهجرة إلي المدينة انطلاقاً لتكوين قاعدة جديدة.. كانت هجرة للتكوين والتغيير. تغير موطن لتستعيد مكة وتظهر البيت الحرام للطائفين والعاكفين والركع السجود. ولتنطلق من الجيرة العربية بسم الله وعلي بركة الله تحمل راية تحرير الشعوب تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتحل لهم الطيبات وتحرم عليهم الخبائث وتضع عن الناس أصرهم والاغلال التي كانت عليهم".. وهنا نري تنظيماً دقيقاً للتموين والأخبار وعمليات التغطية والاتصال المستمر بمكة وفتح الطريق إلي المدينة واتخاذ طريق نحو الجنوب الشرقي أول الأمر بينما القوم يبحثون شمالاً وغرباً والانتظار في الغار حتي يظن القوم أنه قد أفلح في اختراق الحصار الذي ضربوه فإذا ما اطمأن فشله في كل ذلك بدأ طريقه إلي الغرب عن طريق الساحل غير سالك ما اعتادوه من دروب ثم يصل إلي منطقة الجبال بعد هذا في طريق وعر قليل سالكوه. فالتنظيم العلمي هنا دقيق لم يترك أي شيء هنا لصدفة وهو تنظيم بلغ من دقته أن القوم كانوا أقرب ما يكونون إلي الرسول وصاحبه فلم ينالوا منهما شيئاً ولنقف طويلاً عند قول أبي بكر "لو نظر أحدهم إلي موضع قدميه لرأنا فكأنه برغم ما ذكر في كتب التاريخ من أمر العنكبوت والحمامة والقصص المتدلي برغم كل هذا لو نظر أحد الكفار إلي موضع قدميه لرأي الرسول وصاحبه" كتاب "مواقف إسلامية" ص114. .115
وللحديث بقية