الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
فوجئنا .... ولم نفاجأ !
فى هذه الانتخابات البرلمانية التى بدأت فى الأسبوع الماضى لم أفاجأ إلا بشئ واحد. هو إجماع المصريين، أو ما يقارب إجماعهم، على إسقاط مرشحى حزب النور وسواه من الأحزاب المتاجرة بالدين.


لقد ارتفعت أصوات الذين صوتوا، لا فى وجه حزب النور وحده، بل أيضا فى وجه السلطات التى أفرزتها ثورة الثلاثين من يونيو التى قامت ضد خلط الدين بالسياسة. لكن هذه السلطات ناقضت نفسها فسمحت لحزب النور وأمثاله بمواصلة هذا الخلط الفاحش، والعمل على إنتاج صورة أخرى من دولة الاخوان الارهابيين .

وها هو الشعب يسقط حزب النور، ويلقن السلطة درسا نتمنى أن تعيه جيدا وتستفيد منه . وهذه المفاجأة سارة !

لقد كان نشاط هذا الحزب وتصريحات زعمائه وما كان يبدو فى الظاهر من قدرته على تجنيد الأميين وغيرهم من المسلمين وحتى المسيحيين، مستخدما فى ذلك ما نعلمه وما نجهله من الوسائل والطرق - كان هذا كله يوحى بنتائج تدعو للتشاؤم والخوف مما يمكن أن يحدث لنا فى المستقبل على أيدى هؤلاء الذين أخرجتهم الثورتان من كهوفهم المعتمة، وأطلقتهم السلطة علينا بوجوههم المستعارة وثيابهم المستعارة ، وشعاراتهم المستعارة يعلنون الحرب على الحضارة، وعلى العصور الحديثة ، وعلى الدولة المدنية ، وعلى الديمقراطية، وعلى الوطن والمواطنة، وعلى حرية التفكير والتعبير، كل هذا كان ينذر بمستقبل مظلم يحتل فيه هؤلاء مجلس النواب، ويشكلون الحكومة أو يشاركون فى تشكيلها كما فعلوا يوم حالفوا الاخوان، وكما فعلوا أيضا يوم سقط الاخوان فتخلوا عنهم ليدخلوا مع السلطة الجديدة فى مساومة مكشوفة أفسحت لهم الطريق رغم أنف الدستور الذى يمنع قيام الأحزاب الدينية، ورغم أنف المنطق، ورغم أنف المصلحة الوطنية ليمارسوا نشاطهم غير المشروع، ويشاركوا فى الانتخابات البرلمانية وقد أجمعوا أمرهم وأعدوا العدة ليفوزوا فيها، ان لم يكن بالنصيب الأوفى فبالذى يليه على الأقل. وهكذا دعى الناخبون للتصويت فذهب من ذهب ، وتخلف من تخلف ، وأعلنت النتيجة .

لقد سقط مرشحو حزب النور سقوطا مدويا دلنا على أن الناخبين المصريين هم الذين اتفقوا دون اتفاق - أى بوعى تلقائى لا يحتاج إلى اتفاق مسبق - على أن يسقطوا هؤلاء ، سواء منهم الذين أدلوا بأصواتهم، أو الذين لم يدلوا بها . الذين شاركوا فى التصويت ذهبوا ليقولوا للمتاجرين بالدين : لا! والذين لم يشاركوا فيه ليقٍولوها للمتاجرين بالدين وغير الدين. فإذا كان الذين شاركوا فى التصويت قد فاجأونا بالصفعة التى وجهوها للأحزاب الدينية، فالذين لم يشاركوا فى التصويت لم يفاجئوا أحدا، لان عدم مشاركتهم كانت هى أيضا تعبيرا عن وعى تلقائى لايحتاج إلى اتفاق مسبق ، وكانت دليلا على أن المصريين يستطيعون أن يهزلوا إذا أرادوا ، لكنهم لايخلطون الجد بالهزل !

<<<<<<<

المصريون يشاهدون أفلام نجيب الريحانى فيغرقون فى الضحك . ويشاهدون أفلام يوسف وهبى فيغرقون فى الدموع، لكنهم يعلمون علم اليقين وهم فى دور السينما أو أمام شاشات التليفزيون أن الذى يشاهدونه تمثيل فى تمثيل، وأن الواقع الذى سيعودون إليه بعد أن ينتهى العرض شيء آخر . وبهذه الحاسة التى يميزون بها بين الواقع وتمثيل الواقع ميزوا بين الانتخابات وتمثيل الانتخابات. وهو أمر يدعو للاعجاب حقا، لأن المصريين الذين عانوا كثيرا من الفقر والأمية والطغيان لم يعرفوا فى تجربتهم مع الانتخابات البرلمانية - وهى تجربة حديثة وقصيرة اذا قيست بتاريخهم العريق الممتد - أقول انهم لم يعرفوا فى هذه التجربة منذ بدأ وها فى ستينيات القرن التاسع عشر الا الانتخابات المسرحية، فإذا استطعنا مع هذا أن نعثر على انتخابات حقيقية جرت فى النصف الأول من القرن العشرين فهى استثناءات لم تغير الواقع.

المصريون عاشوا ألفى عام من تاريخهم تحت حكم الغزاة الأجانب الذين كانوا غزاة وطغاة فى وقت معا ، وكانوا متخلفين كثيرا بالنسبة للمصريين، فبوسعنا أن نتصور أى مثلث كابوسى تقلب تحته آباؤنا وأجدادنا ، وأى ذل وبؤس ومهانة ظلوا يتجرعون سمومها قرونا بعد قرون حرموا فيها من التمتع باستقلالهم الوطنى، وبحقوقهم الطبيعية، وبحضارتهم التى لم يستطيعوا أن يواصلوها، أو يمارسوها لأن المغلوب يضطر لتقليد الغالب .

أذكركم دائما بهذه الحقيقة لتتصوروا أى خسارة فادحة منينا بها حين فقدنا الحرية ، ولتدركوا بالتالى أن الحرية هى مطلبنا الأول أمس ، واليوم ، وغدا . لأنها الشرط الجوهرى الذى لا نستطيعه بدونه أن ننتج أو نتقدم أو نواصل حتى وجودنا .

وأذكركم بهذه الحقيقة لتعلموا أن أى سلطة تتنكر للديمقراطية أو تزيفها ستكون بالنسبة لنا استمرار لسلطة الغزاة الأجانب، ولو كان القائمون عليها مصريين أبا عن جد .

وهناك من يختزلون الديمقراطية فى الانتخابات، أو يجعلونها مجرد نظام سياسى يحصرونه فى نشاط لا يتعداه. والحقيقة ليست كذلك. فالديمقراطية هى حكم الشعب. والشعب لا يحكم نفسه الا اذا بلغ سن الرشد، وأصبح جماعة وطنية لها سماتها ولها شخصيتها. وإذن فالديموقراطية حضارة وانتاج وقيم وحقوق وطنية وحقوق فردية. وإذن فالديمقراطية شرط حياة لاتستقيم الحياة بدونه. وهذا ما فهمه المصريون ليس فقط من تجربتهم مع الديمقراطية التى لم يعرفوها إلا نادرا، بل أيضا من تجربتهم الطويلة مع الدكتاتورية والطغيان .

حين ثار المصريون على الخديو توفيق وعلى وزرائه الأجانب ورفعوا شعارهم المعروف «مصر للمصريين» ثاروا من أجل الديمقراطية وعبروا عن ذلك فى كلمة عرابى التى رد بها على الخديو حين قال له هذا: أنتم عبيد إحساناتنا! فأجاب عرابى وهو على صهوة جواده! «لقد خلقنا الله أحرارا. ولن نستعبد بعد اليوم!» وحين ثاروا على الانجليز المحتلين بقيادة سعد زغلول طلبوا الاستقلال وطلبوا الديمقراطية فى آن معا، وظلوا طوال الحكم الملكى يدافعون عن الدستور والديمقراطية حتى استولى ضباط يوليو على السلطة وقرروا إحياء النظام المملوكى فأوقفوا العمل بالدستور، وحلوا الأحزاب، وسلطوا على الشعب وعلى زعمائه عصابات من السوق المأجورين يتظاهرون فى الشوارع ويهتفون : تسقط الديمقراطية! ومنذ ذلك الوقت ونحن نمارس حقوقنا السياسية فى المسرح . نخرج من كوميديات عبدالناصر لندخل كوميديات السادات وحسنى مبارك، الى أن وصلنا الى الكوميديا السوداء التى ألفها المجلس العسكرى، ولعب فيها الاخوان والسلفيون الأدوار الأولى الرجالية والنسائية ، حتى بدا لنا أن هذه الملهاة فى طريقها لأن تصبح مأساة. عندئذ غادرنا المسرح الى الشارع نهتف: يسقط حكم المرشد! فأثبتنا من جديد أننا قادرون بالرغم من أميتنا وفقرنا وماضينا الذى عشناه تحت حكم الغزاة والطغاة - أثبتنا أننا قادرون على التمييز بين الانتخابات المسرحية والانتخابات الحقيقية.

أقول إن الملايين التى خرجت فى الثلاثين من يونيو تسقط حكم المرشد هى الملايين التى لم تخرج فى الثامن عشر من أكتوبر لتشارك فى التصويت، لقد كانت تدافع عن الديمقراطية يوم خرجت، وكانت تدافع عن الديمقراطية يوم امتنعت عن الخروج !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف