الأهرام
محمد ابو الفضل
فتش عن الرؤية الغاطسة
هل يمكن أن ينجح نظام حكم على المستوى الخارجي، ويواجه تعثرا داخليا ؟ وما هى الأسباب التى تؤدى للتفوق هنا، والإخفاق هناك؟ وكيف يستطيع نظام أن يهزم خصومه، من قوى إقليمية ودولية جبارة، بكل ما تملك من إمكانات أمنية وسياسية وإعلامية واقتصادية، ولا يتمكن من إلحاق هزيمة ساحقة بخصومه التعساء فى الداخل ؟
هذه الأسئلة وغيرها، دارت فى ذهنى وأنا أتابع الخطوات والتحركات المصرية على صعيد السياسة الخارجية، التى حققت نجاحات كبيرة خلال فترة وجيزة، بل صححت أخطاء سنوات ماضية، بدت فيها مصر بعيدة عن كثير من التفاعلات الإقليمية والدولية، بما ألحق أضرارا بالغة بمصالحها الإستراتيجية.
الفترة الماضية، أعادت السياسة الخارجية العافية والحيوية للدور المصري، وبنت صورة جديدة، بموجبها تمت صياغة العلاقات مع دوائر متعددة، على أساس تعظيم المصالح الوطنية، فى وقت كانت هناك جدران مرتفعة أمام أى توجهات تسعى لعلاقات طبيعية، بل كان هناك إصرار على حشرنا فى زاوية ضيقة، أملا فى أن ترضخ الدولة للضغوط المتفرقة التى مورست عليها، وتستجيب لمطالب جهات مختلفة، من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، وفى النهاية انتصرت الإرادة المصرية، لأن القيادة السياسية كانت لديها رؤية واضحة لما تريده، وتسير وفق منهج محدد، لا يسعى فقط إلى تقليل الخسائر، لكن للوصول إلى مكاسب بدت للبعض بعيدة المنال.

والنتيجة التى وصلت إليها مصر الآن، هى تحقيق تفوق ملحوظ، تجاوز إبعاد أو تحييد الأخطار الداهمة، إلى المشاركة فى رسم خريطة المنطقة، من خلال الانخراط فى أزماتها الساخنة، وتقديم مقاربات لإطفاء عدد من البؤر الملتهبة، ولعل الدور المصرى المتصاعد فى الأزمة السورية خير دليل، فإذا كانت روسيا تبدو العراب الدولى فى هذه الأزمة، فالقاهرة تمكنت أن تكون واحدة من المحطات الفاعلة إقليميا، تبدأ وتنتهى عندها كثير من الخطط والتصورات السياسية.

المثير أن الأمر لا يقتصر على الأزمة السورية، لكنه ينطبق، وبدرجات متفاوتة، على أزمتى ليبيا واليمن، وعلى ضوء البوصلة المصرية، أضحت تتحدد بعض الخطوط والتوجهات، حتى فى الموقف من أدوار بعض القوى الإقليمية وهوامش حركتها، تلعب مصر دورا فى ترجيح موازينها، لأن هناك رؤية عامة، تندرج تحتها الكثير من التفاصيل الدقيقة، ترسم الطريق للوصول إلى الهدف، عبر معرفة مفاتيحه، وسبل تجاوز العقبات والمطبات التى تعتريه، وكانت النتيجة حصد الكثير من النقاط ووضعها فى سلة السياسة الخارجية.

فى المقابل، تبدو الرؤية على الصعيد المحلى غائمة، وربما غائبة أصلا، وهو ما يفسر عدم تحقيق إنجازات تتناسب مع ما تم الوصول إليه خارجيا، فالمشكلات تتراكم، والأزمات تتزاحم، بدءا من غلاء الأسعار، وحتى الإخفاق فى التعامل مع امتحان نوة الإسكندرية، التى كشفت اتساع العجز فى المحليات، ومرورا بحزمة كبيرة من التحديات، لم تظهر حتى الآن بارقة أمل تشير إلى إمكان التصدى لها، ووقف تداعياتها السلبية.

الفرق الجوهري، لتفسير النجاح الخارجى والفشل الداخلي، يكمن فى امتلاك الرؤية الصائبة، فالقيادة السياسية التى تدير الدفتين، تعرف ماذا تريد فى الأولي، ولديها غموض فى الثانية، تملك أدوات التعامل الجيدة مع النسق الحاكم فى الأولي، من طاقم سياسى ودبلوماسى محنك، إلى معلومات واضحة ومحددة عما يدور فى العالم، ومراكزه المؤثرة، بينما لا تزال تجهل ذلك على الصعيد الداخلي، حيث تدار ملفات حديثة بخلفيات ورواسب قديمة، مع أن الأول أشد تعقيدا من الثاني، وبحاجة إلى قوى وأدوات قادرة على مجابهة الأجزاء الغاطسة أكثر من الأجزاء الظاهرة فوق السطح.

الشيء الذى يفسر لنا هذه الازدواجية، يمكن إيجازه فى عدة نقاط، أهمها، أن التقديرات لحجم المخاطر والأضرار على المستوى الخارجى واضحة، وغالبية أطرافها السياسية والأمنية والاقتصادية والإعلامية، معروفة إلى حد كبير، وهو ما يسهل التعاطى معها، لكن داخليا الأوضاع متداخلة ومتشابكة، بطريقة مثيرة، اجتماعيا واقتصاديا، بحيث يصعب رسم خريطتها ومعالمها بدقة.

كما أن الحسابات الحاكمة فى الحالتين مختلفة، فخارجيا الرؤية متحللة من القيود والمجاملات، ومحكومة فقط بتقديرات تسير فى طريق واحد واضح كالشمس، هو الحفاظ على المصلحة الوطنية، والوقوف فى وجه أطماع أى قوي، مهما تكن كبيرة أم صغيرة، لكن داخليا موازين القوى لها حسابات مغايرة، وتتحكم فيها اعتبارات، تفوق أحيانا المصلحة الوطنية، وتطغى عليها المصالح الشخصية، ويملك البعض من النفوذ والقوة، ما يناطح، وربما يتفوق على إرادة الدولة، بالتالى من الطبيعى أن تكون النتيجة مخيبة للآمال محليا، وطالما بقيت هذه المعادلة على حالها من الاختلال سوف يزداد التعثر، وتتراكم المشكلات، وتتصاعد حدة الأزمات، ويتصارع أصحاب الحظوة والنفوذ على حصد الغنائم.

المطلوب أن تكون الرؤية الداخلية واضحة، وبعيدة عن القيود، أو الخوف من الارتدادات السلبية، خاصة أن هناك من يسعى إلى تضخيم الهواجس والمخاوف، لعدم الاقتراب أو التغيير، لأنها تحقق مصالح فئة محدودة، مرتاحة لمواصلة الارتباك، وتحاول وضع العراقيل، إذا بدت فى الأفق مؤشرات لضبط التوازنات، ومطلوب أيضا أن تسير الرؤيتان على خطين متوازيين، لأن استمرار الخلل لفترة طويلة، سوف يؤدى إلى مضاعفة الإحباط العام، وتخريب الطموحات، وهدم الآمال التى بنيت على نتائج المشروعات الكبيرة، بما يسهم فى تمترس طبقة حققت أرباحا باهظة من وراء عدم القدرة على تجاوز الخطوط الحمراء التى وضعها البعض لأنفسهم، وكأنهم فوق الدولة، لهم طقوس وعادات يطبقونها على المسئولين، دون أن يستطيع هؤلاء إعلاء سيف القانون والمحاسبة .

الحاصل أن استمرار المفارقة بين الخارج والداخل، سوف تكون له انعكاسات على عوامل التفوق والنجاح، فإذا لم تستطع العملة الجيدة أن تطرد الرديئة، يمكن أن يحدث العكس، لأن تزاحم المشكلات الداخلية يعيق النجاحات الخارجية، والانخراط فى الهموم المحلية، تدفع ضريبته السياسة الخارجية، وتمددها فى أجواء مليئة بالأزمات يصبح نوعا من الرفاهية، لذلك من الضرورى البحث عن صيغة عاجلة تضبط إيقاع الزيادة المفرطة فى المشكلات، بصورة تسير حسب الروشتة التى أعادت لمصر اعتبارها، إقليميا ودوليا، وتملك عنوانا عريضا اسمه استعادة الرؤية الغائبة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف