الجمهورية
جلاء جاب اللة
رسالة من تحت المطر
هل تكون تلك هي الرسالة الأخيرة من تحت المطر؟ أشك.. مع أي نوة قادمة علي الإسكندرية وتكون بنفس قوة المطر سيموت أبرياء صعقا بالكهرباء وقد يموت آخرون غرقا.. مهما فعلنا.. لأننا ببساطة لا نتعلم.. وإذا تعلمنا لا نفهم.. وإذا فهمنا لا نفكر... وإذا فكرنا عدنا للنقطة صفر ولا نريد أن نغير ثقافتنا.
القضية ببساطة - وهذه رسالة من تحت المطر - أن ثقافة المواطن المصري هي الفهلوة.. وغياب الضمير.. نحن نطالب بالضمير والحق إذا كان لصالحنا.. أما إذا كان حق الوطن أو حق الغير أو الواجب علينا فإن الضمير يغيب فورا.. والحق يكون مجرد شعار.
الساخطون علي الرشوة هم أول من يكون مستعدا لدفعها إذا كانت ستعود عليه بالفائدة... والشاكون المتباكون علي وجود الواسطة هم أول من يبحث عن واسطة من أجل نفسه أو أولاده أو حتي أقاربه هذه ليست حالة انفصام في الشخصية كما يوهمنا علماء النفس بل هي الشخصية المصرية الغريبة والعجيبة ولتكن هذه الرسالة من تحت أمطار عروس المتوسط الحزينة التي ارتدت السواد فرصة لكي نواجه أنفسنا بصراحة.
لقد استقال محافظ الإسكندرية فأراح وارتاح ولكن هل يتحمل وحده المسئولية؟ سيقول البعض نعم ويقول آخرون لا فالأحياء ومجالس المدن تتحمل المسئولية بل ويزيد آخرون أن وزارات الخدمات أيضا متهمة ويزايد معهم البعض بأن المحافظين السابقين ابتداء من اللواء المحجوب هم السبب لأنه سمح بالبناء علي حساب البنية التحتية.. وقد تكون كل هذه الأسباب منطقية لكن يغيب السبب الرئيسي وهو الثقافة المصرية وغياب الضمير.
من بني الحضارة الاسمنتية لأكثر من 25 دورا علي حساب البنية التحتية سيقول لك إنه كان يبحث عن حل لمشكلة الاسكان وأنه أفاد المجتمع كما استفاد وأن شركات المقاولات استفادت وأنه ساهم في تطوير الكورنيش أي أنه خدم المجتمع بهذا البناء.
الحقيقة أن لكل موقف أكثر من وجه.. لكن الوجه الحقيقي دائما هو الغائب لأنه يفضحنا أمام أنفسنا ويكشفنا بل ويعرينا... فنحاول أن نبحث عن غطاء يخفي قبحنا.. ويضفي لمسة من جمال علي اخطائنا.
ما حدث في الإسكندرية - أيها السادة - يمكن أن يحدث في أي مكان.. وإذا كان المطر هو السبب اليوم والزلزال هو السبب عام 1992.. فإنه قد يكون هناك سبب ثالث ورابع وخامس وكلها أسباب ظاهرة أما السبب الحقيقي فهو ثقافتنا الغريبة.. نحن نكاد نكون الشعب الوحيد الذي يسكن في البدروم.. ونحن نكاد نكون الشعب الوحيد الذي يعتبر العشوائية في كل شيء جزءاً من ثقافته.
والغريب والعجيب أن بعضا من كتابنا أرادوا أن يبرروا ما حدث فهاجموا المشروعات القومية الكبري واعتبروا أن اهتمام مصر بهذه المشروعات هو السبب لأنه جاء علي حساب احتياجات الناس.. وكأن هذه المشروعات ليست من احتياجات الناس.
عندما تكون هناك فرصة لمليون وظيفة لشاب في مشروع قناة السويس اليست هي احتياجات الناس؟ عندما نزرع 1.5 مليون فدان لتحقيق تنمية زراعية مقابل الأرض التي ضاعت في البناء ولزيادة الانتاج الزراعي أليست تلك هي احتياجات الناس؟ وعندما يكون لدينا مشروع عملاق للطرق أليست تلك هي احتياجات الناس؟
عندما نبحث عن عاصمة إدارية جديدة فيزيد اتساع القاهرة الكبري ويكون هناك مناطق جديدة لتجمعات سكنية جديدة أليست هي من احتياجات الناس؟
أكرر: لن تكون هذه الرسالة هي الأخيرة من تحت المطر لأننا مازلنا نعيش متشرذمين ويرانا الآخرون وكأننا علي قلب رجل واحد.. كل يغني علي ليلاه وكل يبحث عن مصلحته دون مصلحة المجتمع.. ونعتبرها شطارة وفهلوة.
المدرس الذي يترك مدرسته ويعمل 16 ساعة أو أكثر في الدروس الخصوصية.. يعتبرها شطارة وفهلوة... والطبيب الذي لا يواظب علي علاج مرضاه في المستشفي العام.. ويعمل في عيادته ومستشفياته الخاصة.. يعتبرها شطارة وفهلوة وحقاً مكتسباً.. الموظف في المحليات الذي يتغاضي رسميا أو شفويا عن المخالفات الجسيمة في البناء فترتفع العمارات لعشرات الأدوار علي حساب البنية التحتية ويكتفي بتحرير محضر رسمي ليعفي نفسه من المسئولية الجنائية.. يعتبر ما يفعله شطارة وفهلوة.
حتي تاجر المخدرات يعتبرها شطارة وفهلوة وتري بعضهم يقول لك أنا لا أدخن ولا أشرب مخدرات نهائيا.. لكن ابيعها لمن يرغب ويعتقد أن تلك شطارة وفهلوة.
ما حدث في الإسكندرية ليس غريبا أو غير متوقع.. لكنه قد يحدث في أي مكان.. صحيح أن بعض المحافظات نجحت في الاستعداد للسيول ونجحت في تفادي مشاكلها.. وهذا أمر جيد.. ولكن أيضا هذا لا يمنع أن الأزمات في مصر وفي كل مكان معقدة خاصة فيما يهم الإنسان البسيط لذلك تراه يلجأ للشطارة والفهلوة والتي تكون عادة ضد حق المجتمع.. لأن المواطن يري أن المجتمع لم يمنحه حقه.. وهو يريد أن يحصل علي حقه بطريقته الخاصة ما دام المجتمع حرمه منها.
لقد شاهدت مظاهرة لأولياء أمور وتلاميذ مدرسة ابتدائية في المنيل أمس وسألت لماذا؟ قالوا لأن المدرسة ستنقل تلاميذها لمدرسة أخري لحين اصلاح المدرسة وإعادة بنائها لأن هناك مشاكل في بناء المدرسة خوفا علي التلاميذ لكن التلاميذ كانوا يهتفون ومعهم أولياء أمورهم: ¢مش هنمشي.. مش هنمشي¢.
سألت أحدهم: ألا تخاف علي أولادك..؟ قد تقع المدرسة عليهم فعلا؟ قال: لا هم كاذبون والمدرسة زي الفل.. هم يريدون بناء عمارة سكنية كبيرة في هذا المكان لأنها منطقة غالية.
توقفت أمام الأب: هو يصدق كل شائعة حتي لو كانت كاذبة.. هو يضحي ما دامت تلك مصلحته كما يراها هو.. هو لا يثق في الحكومة لذلك صدق الشائعة.. هو غاضب ووجدها فرصة لكي يعبر عن غضبه.
الطريف أن إدارة المدرسة سمحت للتلاميذ بالخروج مبكرا قبل موعد انتهاء اليوم الدراسي... فقرر معظم أولياء الأمور أن يصطحبوا أبناءهم إلي المنزل تاركين قضيتهم.
هذه هي أحد أوجه الشخصية المصرية.
** رسالتي من تحت المطر لم تنته بعد ولكن هناك المزيد.. لأن قضية الإنسان المصري وشخصيته الغريبة وثقافته الأغرب.. تحتاج إلي أكثر من رسالة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف